في كتاب «الدكتور بشار والمستر الأسد» يقربنا جان-ماري كيمينير من اللوحة. استلهم المحقق الصحافي هنا عنوان الرواية الشهيرة «الحالة الغريبة للدكتور جيكيل والمستر هايد» للكاتب روبير لويس ستفنسون الصادرة عام 1886. وتحكي قصة غابريال جون أوتيرسون، الذي قام بتحقيق في العلاقة الغريبة بين إدوارد هايد والدكتور هنري جيكيل. كان هذا الأخير مصابا بازدواجية الشخصية، وقد ابتكر مخدرا يساعده على التمييز بين الجانب الطيب والجانب السيء في شخصيته. لكن ليلة بعد أخرى، تغلب الجانب السيء على شخصيته ليتحول إلى مستر هايد بشع. خلافا للمكتبة الإنجليزية، لا تتوفر الخزانة الفرنسية على مؤلفات بقيمة مرجعية موثقة وجازمة عن تاريخ آل الأسد. إذ باستثناء بعض المونوغرافيات عن حافظ الأسد أو أخيه رفعت، نفتقر إلى دراسة وافية تقارب جينيالوجية وتركيبة هذه العشيرة، التي تنتمي إلى الأقلية العلوية، والتي نجحت في توارث الحكم والحفاظ عليه في نطاق كمشة من الأشخاص يتحكمون في الشأن السياسي، الاقتصادي والتجاري تحت المراقبة التوتاليتارية للجيش والمخابرات. وعلى خلفية التراجيديا الدموية، التي يعيشها الشعب السوري يوميا، والتي يترجمها التقتيل اليومي للأبرياء، بدأ الباحثون والمحللون يولون المزيد من الاهتمام بالشأن السوري وبالأخص الشأن السياسي. كما شرع المحققون في النزول إلى الميدان سرا أو علنا لنقل أصداء مجتمع يغلي غضبا ويطمح إلى طي صفحة عشيرة آل الأسد. كما بدأ الاهتمام باللغز الذي يمثله بشار، والذي أظهر عن وجهين بشعين أو بالأحرى كان مثل السم في العسل. ومن بين الأعمال التي ألقت المزيد من الأضواء على المجتمع السوري مؤخرا، العمل الجماعي، الذي حمل عنوان «سوريا حاضرا» الصادر عن منشورات سندباد-أكت سود، والذي ساهمت فيه كوكبة من المؤرخين، وعلماء السياسة، وعلماء الجغرافيا. كما طرح كذلك في المكتبات كتاب «لما تستيقظ سوريا» (منشورات بيران)، وهو من تأليف ريشار لابيفيير، طلال الأطرش وألان شويط. أما الدراسة التي أنجزها توماس بييريه بعنوان «حزب البعث والإسلام في سوريا (المنشورات الجامعية الفرنسية) فهي مقاربة دقيقة ومميزة لعلاقة رجال الدين بحزب البعث السوري. جاءت الانتفاضة السورية للكشف عن جملة حقائق، أهمها: وحشية النظام البوليسي والمخابراتي، الذي لا يتردد في القتل المتعمد للأطفال بغية بتر ذاكرة بأكملها كي لا يقولوا يوما: ليس هناك جيل يمكنه تذكر ما حدث. ثانيا شخصية مهندس هذه الهجمية، بشار الأسد. وكما دك والده في حماة الإخوان المسلمين بواسطة الدبابات، لم يتردد ابنه في الدفع إلى الشوارع بنفس الدبابات لسحق المتظاهرين. وقد أعرب الابن عن نيته في إضرام النار في مجموع البلد لو اقتضى الأمر ذلك. لكن من هو بشار الأسد؟ ما هو مساره؟ وكيف أصبح من الوجوه السياسية البشعة؟ في كتاب «الدكتور بشار والمستر الأسد» يقربنا جان-ماري كيمينير من اللوحة. استلهم المحقق الصحافي هنا عنوان الرواية الشهيرة «الحالة الغريبة للدكتور جيكيل والمستر هايد» للكاتب روبير لويس ستفنسون الصادرة عام 1886. وتحكي قصة غابريال جون أوتيرسون، الذي قام بتحقيق في العلاقة الغريبة بين إدوارد هايد والدكتور هنري جيكيل. كان هذا الأخير مصابا بازدواجية الشخصية، وقد ابتكر مخدرا يساعده على التمييز بين الجانب الطيب والجانب السيء في شخصيته. لكن ليلة بعد أخرى، تغلب الجانب السيء على شخصيته ليتحول إلى مستر هايد بشع. بشار العراب الجديد ينطبق هذا الواقع على بشار الأسد، الذي يبقى في نظر كيمينير لغزا محيرا. كيف أمكن لهذا الشخص «الطيب»، الخجول، الذي كان حلمه أن يصبح طبيب عيون بلندن، أن يتحول إلى طاغية مبيد لشعبه دون خجل ولا تردد؟ كل المؤهلات الجسدية من نظرته الوديعة، صوته الخفيض، قامته الطويلة...تلعب لصالح الصورة الإيجابية التي يمكن أن يكونها المرء عنه. هب أنك أمام طبيب يقوم بفحص عينيك مقترحا عليك العلاج المناسب، ثم لا يلبث أن يخاطبك ببرودة أعصاب أنه لن يتردد في إغراق المتظاهرين في حمام دم! وفي حالته المرضية أضاف القول إلى الفعل. ويتساءل الصحافي: أين يقع الشرخ؟ في أية لحظة قرر بشار تحمل عبء الإرث اللاإنساني لوالده؟ عند أية نقطة وقع تحول الرجل؟. يهدف هذا الكتاب إلى متابعة أهم الأحداث التي دمغت حياة هذا الرجل. من الطفولة إلى هجوم الدبابات على المتظاهرين. تم التحول بشكل بطيء وتدريجي. وكل الباحثين الأمريكيين الذين عكفوا على متابعة مسار وشخصية بشار الأسد يستشهدون بفيلم «العراب» للمخرج فرنسيس فورد كوبولا. في هذا الفيلم يعين دون فيتو، وهو رب العائلة، ابنه الأكبر سوني وريثا ليتكلف بأعماله. لكنه يبعد ابنه الآخر مايكل. يموت سوني مغتالا، وغصبا عنه يعيّن الأب ابنه مايكل، الذي سيصبح العراب الجديد، ليتابع الموروث الدموي لعائلة كورليوني. يكفي تعويض اسم دون فيتو باسم حافظ الأسد، وسوني باسم باسل، ومايكل باسم بشار، للحصول على نفس التراجيديا الدموية. حتى انسياق بشار نحو العتمة يبقى محط تساؤل. أليس جانبه السري لما كان تلميذا الخميرة الأولى لطبعه الاستبدادي؟ النكت التي سربت عن تواضعه وهدوئه خلافا لأخويه باسل وماهر المشاغبين أصبحت مأثورة. وهو طالب بكلية الطب بدمشق، حضر بشار، كمتفرج، محاضرة (إجبارية) بالمدرج الكبير للجامعة في موضوع «مزايا حزب البعث وقائده العظيم حافظ الأسد». وفي كل مرة ينطق فيها المحاضر اسم حافظ الأسد كانت القاعة تضج بالتصفيقات. أما بشار فلم تكن تصدر عنه أي حركة، لم يصفق ولم يبد أي حماسة، ولما لاحظ أحد الطلبة، كان يجلس خلفه، بأنه لم يكن يصفق ولم تصدر عنه أي حركة، ضربه ضربة خفيفة على رأسه. التفت بشار ليفسر له الطالب بأن عليه أن يعبر مثل كل الحاضرين عن حماسته. لما انتهت المحاضرة تقدم بعض أصدقاء بشار من الشخص الذي ضربه ليعرفوه بهويته، فكاد ذلك الطالب أن يصاب بنوبة قلبية، ولم يجد أمامه سوى أن قدم اعتذاراته لبشار. ماكياج في بداية حكمه، أعطى بشار الأوامر بطي صفحة تمجيد ومديح الرئيس، الذي تطلى بصوره الحيطان واللوحات الإعلانية. لكن بعد ثمانية أشهر، خرجت نفس الملصقات من المطابع لتلطيخ جدران دمشق وأسوار حلب. باختفاء حافظ الأسد، كان السوريون ينتظرون التغيير وليس الثورة. لكن لم يحدث هذا التغيير بالمرة. وكما قال فيكتور هيغو: «الأسد يصبح قردا لما ينقل عن أسد آخر»! ربما تفادى بشار الأسد بضعة أشهر فقط أن يكون المرآة الوفية والمطابقة لوالده، قبل أن ينسحب خلف المستر أسد والتسبب في إشعال الثورة. هكذا اختفى الرجل الأول خلف المؤسسات السياسية ومناوراتها وخلف طبقة نهمة من رجال الأعمال، وأخيرا خلف تاريخ كان يحتاج إلى طبيب، لكنه لم ينجح في الأخير سوى في إنتاج رجل تافه. يتذكر أساتذة بشار تلميذا منعزلا، خجولا، وغير متألق في الدراسة، على الرغم من كده في الدراسة. كان والده منزعجا من هذا الوضع. وفي عام 1981 في عز سحق الإخوان المسلمين كان بشار في قسم النهائي، ولم يكن مسموحا له بتكرار السنة. وبفضل دروس إضافية حصل على نقاط جيدة في المواد العلمية، الشيء الذي مكنه من الحصول على شهادة الباكالوريا. في هذه الأثناء كان حافظ الأسد يقتل بكل طمأنينة شعبه، وعلى رأسهم الإخوان المسلمون الذين كانوا يوجهون إليه اللعنات. الحنين إلى لندن وهو طالب استأنس بشار بحياة لندن، بمنأى عن حلبات السياسة وصراعاتها. كان يصل إلى عمله بالمستشفى راجلا، يتأمل البنيات والمعالم الهندسية والحدائق. كما كسب الطبع البريطاني، ولم يكن يرغب في تقلد مهام الرئاسة. بعد وفاة أخيه باسل في حادثة سير، وقبل وفاة والده الذي هيأ له خلافة الحكم، دخل بشار إلى سوريا على مضض عام 2002، فيما كانت رغبته فتح عيادة لطب العيونبلندن. ولما كان يعمل بقسم الداخلية بكلية الطب، لم يكن من النوع المشاغب الذي يعربد أو يتابع الفتيات أو يقبل على السهر. كان يشرب بين الفينة والأخرى كأس نبيذ، كما كان عاشقا لموسيقى الجاز ومن عشاق المطرب فيل كولينز. أدهش هذا السلوك الحذر ابن خاله رامي مخلوف الذي كان يزوره بلندن. كما اكتشف بشار تكنولوجيا جديدة: الإنترنت. كل صباح كان يجلس وراء حاسوبه لتتبع الأخبار، وقد وعى بسرعة أهمية وخطورة هذه التقنية. لكن اهتمامه انشغل قبل كل شيء بفتاة إنجليزية من أصل سوري، هي أسماء الأخرص. فتاة جميلة وأنيقة وحاصلة على دبلوم في تكنولوجيا المعلومات. وقبل أن تستعيد اسمها الأصلي، كانت تعرف بإيما. لعب والدها، وهو طبيب قلب، دور الوسيط لتسجيل بشار بكلية الطب. بين عائلة الأسد وعائلة الأخرص هناك العديد من أوجه الشبه ما عدا الانتماء الديني: إن كان بشار علويا من الأقلية الحاكمة، فإن أسماء سنية من مدينة حمص، غير أن هذه الفوارق لم تكن عوائق. بمجرد تعيينه رئيسا للدولة، اكتشف بشار أن دولة تقبع داخل الدولة، وأن نظام العشائر هو المعمول به. في البداية مرر رسالة مفادها أنه لن يتهاون مع الرشوة ومع الذين يتعاطونها. كما أرسل البوليس والجيش والجرافات لهدم البنيات الواقعة تحت نفوذ أعمامه وأبناء عمومته، وبالأخص تحت نفوذ عمه رفعت الأسد. بعد رحيل رفعت خلفه كل من رامي وإلهاب مخلوف بالمناطق الحرة. لكن الضجيج الذي أحدثه بشار باسم تخليق الحياة السياسية لم يكن في الحقيقة سوى ذر للرماد في العيون. إذ تابع بشار ما سماه ألان غريش، المحلل بشهرية «لوموند ديبلوماتيك»، ب«الصعود المبرمج»، إذ لجأ إلى منهجية أبانت عن نجاعتها: المراقبة بدل التدخل. بهذه الطريقة أحكم قبضته على لبنان.
شرارة درعة على هدي الشبيبة التونسية والمصرية ومجموع الشبيبة العربية، خرجت الشبيبة السورية على ال«فايسبوك» للدعوة إلى الثورة. لاحظ الدكتور بشار، وهو من بين المستعملين النهمين للإنترنت، أن الشبكة العنكبوتية بدأت تغلي بالاحتجاجات ضد نظامه الفاسد. كما لطخ بعض من الشباب حيطان درعة، مستلهمين الشعارات التي رفعها المتظاهرون في كل من ساحة التحرير للدعوة إلى «سقوط النظام». لكن نسيت هذه الشبيبة العيون والآذان الرقيبة للمخابرات وخنوع الرؤساء المحليين لحزب البعث. لم تلبث الشرطة أن أوقفت موقعي هذه الشعارات. عاطف نجيب، ابن عم الرئيس، الذي يشغل منصب مسؤول إقليمي، انتهز الفرصة للضرب بيد من حديد على هؤلاء الشباب. لم تنفع توسلات العائلات لإطلاق سراحهم. نظمت بعد ذلك مظاهرة، فتدخلت الشرطة لإطلاق النار على المتظاهرين الذين توفي ستة منهم. في المسيرة التي نظمت في الغد لدفن الضحايا، طالب المتظاهرون بأخذ الثأر من الجناة، فسجلت المسيرة نفسها ضحايا آخرين، من بينهم فتاة. وكانت تلك الشرارة الأولى لما أصبح يعرف ب«معركة درعة». تدخل الشباب على الشبكات الاجتماعية لتمرير الأخبار، ولم يترقب بشار الأسد وقوع هذه الثورة، كما أخطأ الرد على الأحداث. أما محيطه فلم يفهم بأن ما يطالب به السوريون هو نهاية الدولة البوليسية والحزب الوحيد ورفع حالة الطوارئ. وكما أشار باتريك سيل في مقال نشره ب«لوموند ديبلوماتيك»، فإن «السنوات التي أمضاها بشار الأسد في السلطة حصنته أكثر. إذ أصبح أكثر سلطوية. كما نما لديه ميل لمراقبة المجتمع برمته، سواء على مستوى الإعلام أو الجامعة أو الاقتصاد، من خلال عائلته، وبالأخص ابن عمه رامي مخلوف، الذي يبسط مراقبته على شركات الهاتف النقال. كما حول حزب البعث إلى أداة للتعبئة، أداة لمكافأة الموالين ومعاقبة الانشقاقيين. كما منع كل أشكال التعبير، فيما أصبحت القرارات السياسية وقفا على مجموعة من الأشخاص يحيطون به ويتحكمون في قسم المخابرات.