عاشوا بيننا ذات يوم. أثروا حياتنا بعصارة إبداعهم وخلاصة فكرهم. آثروا على أنفسهم إضاءة الطريق نحو مستقبل أفضل ليمسحوا عن جبين الإنسانية دموعها ويرسموا البسمة على شفاهها. دفعوا الثمن عن طيب خاطر ودون تردد، بعد أن لاقوا الهوان وقاسَوا الويلات وتكبّدوا المشاق حتى قدّموا للإنسانية المعذبة ما تستحق.. وُلدوا في بيئات فقيرة ونشؤوا في ظروف حياتية صعبة وعاشوا شتّى صور البؤس والشقاء، لكنهم وقفوا صامدين ليصنعوا التاريخ ويُعيدوا كتابته لنا في ملاحمَ بطولية رائعة... إنهم عظماء التاريخ، الذين انهارت عليهم الأحجار وخرجوا من تحتها شامخين.. إنهم عظماء من تحت الصفر. هو أكثر الرجال عظمة في العالم القديم.أكثرهم حكمة وجرأة وشجاعة واحتراما، فضّل الموت على أن يتوقف لسانه عن قولة الحق.رفضت اقدامه التراجع عن الطريق حتى نهايته.أدرك أنه يحمل الخلاص للإنسانية البائسة حين بدأ حياته كفنان ليتحوّل سريعا إلى الفلسفة التي اكتسب معها سمعة عظيمة كمفكر عظيم. تنبأ قبيل تنفيذ الحكم عليه بالإعدام علانية وعلى مسمع من القضاة بأنه لن يكون الضحية الأخيرة للسلطة العمياء حين قال : إن التاريخ سيشهد من بعدي أن لا خاتمة أو نهاية لقافلة العظماء الذين سيقدّمون للموت من وقت لآخر تارة باسم الشعب، وتارة باسم الدين، وتارة أخرى بدافع المصلحة العامة. المتشرد الحكيم كانت عظمة سقراط قد تكوّنت من خلال الخيوط المتشابكة التي امتدت فيما بعد لتصنع مجده وعظمته حتى النهاية، فولادته لم تكن سوى في «ألوباس»، تلك المدينة التي شكّلت مسقط رأسه حيث أسرته الفقيرة التي لا تمتلك حينها حتى ثمن نقله لتعلّم القراءة والكتابة، وحيث والده سفروسيك النحّات المغمور ووالدته فاناريتا، تلك الأم الفاضلة التي اكتسب منها عظمة الأمور وصدق الكلمة وعذوبة الألحان منذ خروجه إلى دنيا اللارحمة ليجد نفسه متقوّقعا داخل خانة الصفر التي لا ترحم قبل أن ينتقل إلى العاصمة أثينا التي كوّنت نشأته وبلّورت فكره وذهنه وتفكيره وصنعت له المجد والشهرة والعظمة حتى اعدامه هناك. كان سقراط قد بدأ حياته البائسة بإتقان مهنة والدة النحّات التي انغمس فيها حتى أخمص قدميه لدرجة فاق إتقانه لها إتقان والده، وأضحت تلك المهنة بالنسبة له باباً بسيطا ووحيدا للدخل في حقبة زمنية انعدمت فيها الحرف والصناعات والمهن المرموقة، بل منعت في وجه الفقراء وأبناء الطبقات السفلى من المجتمع. عاش راضيا قانعا لا يكلّ ولا يملّ، قانعا بحياة الفقر والبؤس الشديد وغير آبه بمظاهر الغنى الفاحش لدى أبناء جيله من الطبقات الراقية، يكتفي بوشاح أبيض رخيص من الصوف، يسير على الدوام حافي القدمين في الصيف والشتاء، يمثل صورة المتشرّد والحكيم في آن واحد، فهو لم يرث حرفة والده النحات، رغم عمله فيها بعض الوقت فقط متحدّيا بذلك العادات والتقاليد حيث يرث الابن صنعة والده. لم يرث تلك الصنعة ولم يمارس أي مهنة أخرى بقدر ما اكتفى بالتجوال في أنحاء المدينة يحاور المواطنين سائلا إيّاهم على الدوام عن مفاهيمهم الأخلاقية والسياسية، يعترض الناس، لا سيما الشباب منهم، في الشوارع والأزقة والساحات العامة وتحت ظلال أشجار الزيتون لمدة خمسين عاما، يحاورهم ولا يكفّ عن مناقشتهم، رافضا أي أجر على الدروس التي أضحى يلقيها عليهم بعد أن أصبحت أثينا تحفل بالفلاسفة والخطباء والسياسيين الذين لا يفتؤون يبحثون عن الطلاب والمريدين، والذين أطلق عليهم اسم «السفسطائيين» إيمانا منه بأن ممارسته الفلسفة ممارسة عملية وعفوية وطريقة للحياة لا تستحق الأجر والمقابل، فتجّمّع حوله المئات من التلاميذ، الذين كان على رأسهم أفلاطون، لدرجة أضحت معها صلته بأفراد مجتمعه ومريديه أوثق من صلته بأفراد أسرته (كان سقراط متزوجا من السيدة إكزانيت وأبا لثلاثة أطفال) بعد أن نذر لهم نفسه وتعاليمه وأضحى زاده الأول والأخير هو مناقشة الشباب في شؤون العدالة والأخلاق، يجادلونه ويتحدّونه ويسخرون منه أحيانا أحرى، ولعلّ هذا ما جعل أحد المسرحّين يتخذ من سقراط موضوعا لمسرحيته الساخرة بعنوان «السحاب»، التي صور فيها سقراط كسلّة معلّقة في الهواء وهو يخاطب الغيوم ويستوحيها في إيجاد حلول صالحة لقضايا بلاده وأمته. حوار النفس كان سقراط يعيش متقشّفا راضيا ببعض النقود التي يكسبها من خلال عمله مع والده النحات، يقنع نفسه على الدوام بهذا المصير المؤلم والمحتم الذي وجد نفسه عليه، حيث لا مكان للأحلام السعيدة داخله حتى حدث ذات يوم ما لم يكن في الحسبان. وبينما كان يمسك بفأسه الصغيرة، التي يشكل من خلالها منحوتاته العظيمة إذا به يشعر بمعالم التكوين لمهنته كنحات قد بدت تتحوّل إلى معالم أخرى تسكن فيه وتعيش داخله، فقد أضحت تلك المنحوتات الصغيرة ترسّخ لديه بعض القناعات النفسية الداخلية التي سرعان ما خطّت له بكلمات وكلمات فأخذ يهذي بها في قرارة نفسه في حوارات مثيرة انتهت بتحوّل خطير في حياته، ينطق لنفسه بكلمات أثارت لدى والده ومقربيه الشكوك والمخاوف من كون الشياطين والأرواح سكنت روحه، وهي شياطين (أو رؤى) أخذت سياق التهمة التي أعدم سقراط بناء عليها فيما بعد. وفي أحد الأيام المشمسة وبينما كان سقراط يمسك بإحدى منحوتاته الجميلة التي قارب على تشكيلها كلوحة فنية جميلة، إذا بنظرات الأب سفروسيك قد بدأت تتجه نحوه بعد أن أخذ يسمعه يقول مع نفسه (في دندنة خفيفة) «إنك نفسك حتى تنقل صورة جامدة إلى الحجر لا روح فيها. ولا تفكر في أن تصقل نفسك فتجعل منها تمثالا حيّا يجسّد الحقيقة الأعلى». كان سقراط يقول ذلك وقد بدأت يداه في ترك المطرقة والإزميل (فأس صغيرة) لينصرف سريعا غير آبه بنداءات والده للبحث عن الحقيقة، وقد أخذ يقول لوالده الذي طلب منه العودة إلى العمل «الآثار الفنية مهما بلغت من الجمال تبقى صمّاء، أما البشر فإنهم ينطقون وبي حاجة لسماعهم». الحيّرة تولّد العقل أخذت عبقرية سقراط وحكمته البليغة في الشهرة والتوسع خلال فترة وجيزة حتى أن بعض أصدقائه (بعد أن دفعه الفضول والغيرة منه في بعض الأحيان) ذهب إلى معبد أبولون بأثينا وأخذ بسؤال كاهنة: هل في أثينا من يفوق سقراط حكمة؟؟ فأجابه الكاهن: كلا. وانقل هذا على لساني إلى سقراط. كانت صدمة هذا الصديق وهو يستمع إلى جواب الكاهن من البلاغة التي أصابته بالدهشة والذهول طوال رحلة العودة وأخذ يسأل نفسه: هل يعقل أن يكون سقراط هكذا؟ هل يعقل أن يكون مثل هذا الكلام خارجا من فم كاهن المعبد الكبير؟ هل أخذت بساطة سقراط تتغلغل إلى أعماق فئات الشعب فعلا؟ وهل يمكن لرجل فقير أن يبسط بآثاره إلى درجة اليقين لدى فئات مرموقة من الشعب؟ بدأت تلك الأسئلة وغيرها التي سكنت ذلك الصديق المقرب لسقراط تجيب عن نفسها بنفسها في عقله وبدا كأنه لا يعرف هذا الشخص (سقراط) أو بالأحرى لم يسبق له أن رآه أو سمع به أو صادفه، لكن سقراط الفقير الذي لم يكن لديه ما يدفع به الأجر لكبار رجال العلم والفلسفة الذين يأتون ويوفدون من أثينا وإليها لتقديم دروسهم لكل من يحبّ ويهوى، كان لديه عقل راجح ورؤية ثاقبة وعبقرية فريدة منقحّة، لم يكن يسلّم بشيء أو يأخذ به على علّته بقدر ما كان يعمل فكره في كل شيء فاحصا مستقرئا متقصيا وقد بدا يقول: «إذا قال أحد إن شيئا كذا وكذا فهل نسّلم بأنه كذلك، أم نفحص ما يقول هذا القائل حتى نصل إلى الحقيقة» . إنه موقف بسيط، لكنه في أعماقه خطير ومنذر بشرّ مستطير، خاصة أن سقراط وجد نفسه وجها لوجه أمام أقوال السلطة الحاكمة وكلام الآلهة في أثينا، فمن جهة كان يدرك بأن الآلهة لا تكذب، وفي نفس الوقت أن السلطة الحاكمة لها السمع والطاعة، لكنه على الجانب الآخر كان يقول: «ماذا لو ثبت بالفعل والمنطق والحجّة والبرهان بأن السلطة والآلهة في أثينا لا تفعل الصواب ولا تقول الحقيقة .إنه لأمر محيّر فعلا، فمن هذه الحيّرة ولد العقل في اليونان القديمة». يتبع