الثورات تكون متوحشة بالغريزة، فتقتل خصومها واحدا واحدا؛ وعندما تنتهي منهم تقتل حتى بعض الذين ناصروها، لذلك قيل إن الثورات تأكل أبناءها. شهية الثورة إلى الدم تكون مفتوحة عن آخرها لأنها تحاول التعويض عن دمها الذي تم إهداره من طرف الحاكمين الذين تمت الثورة عليهم، لكن الثورات العربية لم تكن كذلك، لقد توقفت في منتصف الطريق وعفت عن جلاديها وامتزج النظام القديم بالنظام الجديد. في الثورة الفرنسية، وهي من أشهر وأقدم ثورات العالم الحديث، ظل الثوار يقطعون رؤوس خصومهم على مدى سنوات. وفرنسا، التي تصرخ اليوم عند أول عملية إعدام في بلدان العالم الثالث، هي التي اخترعت المقصلة التي ظلت تقطع رؤوس أعداء الثورة إلى درجة أن كثيرين كانوا يضطرون إلى الانتظار طويلا قبل أن يصل دورهم في قطع رؤوسهم لأن عدد المقاصل لم يكن كافيا. خلال الثورة الفرنسية، التي بدأت عام 1789 واستمرت حتى 1799، صارت عملية قطع الرؤوس في الساحات العامة مسألة عادية إلى درجة أن النساء الفرنسيات كن يتسلين بغزل الصوف ومشاهدة قطع الرؤوس كما لو أنهن يشاهدن برنامجا للطبخ على شاشة «بلازما» عملاقة. وفي الثورة السوفياتية، أباد البولشفيون كل ملامح العهد القيصري السابق، وتمت إبادة كل أسرة القيصر نيكولا الثاني، ولم تفلت سوى فتاة صغيرة سرعان ما لقيت حتفها بعد ذلك في ظروف مختلفة. ولم تكتف الثورة السوفياتية بإبادة خصومها، بل طاردت حتى أنصارها المشبوهين، لأن الثورة عندما تنجح فإنها تصاب بوسواس قهري اسمه «ظلي هو عدوي أيضا». في كوبا، لم يكن أحد يتصور أن يصل إلى السلطة شاب حالم اسمه «فيديل كاسترو». لقد وصل إلى العاصمة الكوبية «هافانا» مع حفنة من رفاقه المسلحين ببضع بنادق وقنابل باردة. لقد طرد فيديل الدكتاتور «باتيستا» وحوّل كوبا إلى أول دولة شيوعية في أمريكا اللاتينية، ثم نصب صواريخ نووية قرب أنف واشنطن، لكنه أزالها في النهاية عندما أحس بأن ثورته في خطر. مع فيديل كان تشي غيفارا، هذا الثائر الأبدي الذي صار رمزا للثوار في كل الأزمنة وحارب في كل القارات دعما لشعوب مقهورة، وكان يحلم بتغيير العالم كله بطلقة رصاصة. صار غيفارا مسؤولا في حكومة الثورة الكوبية، لكنه اكتشف سريعا أن الثورة صارت دولة، وأن أحلامه أكبر بكثير من جلباب وزير، فهرب بجلده مجددا إلى الأدغال. غيفارا، أيام كان مسؤولا في حكومة كاسترو، جاء إلى الرباط في زيارة خاصة، فتم احتجازه في فندق «باليما» الذي لا يبعد سوى بخطوات عن مقر البرلمان، وكأن المسؤولين المغاربة كانوا يخافون من أن تصل عدوى الثورة إلى برلمانيي ذلك الزمان فيهتفون «الشعب يريد...». بعد ثورة كوبا، جاءت ثورات أخرى في أمريكا اللاتينية لكنها انتهت قبل أن تبدأ، ولم تصل إلى زخم ثورة فيديل، الذي انتهى بدوره يدخن السيجار ويمشي في الأسواق. وفي إيران، وبعد دهر طويل من حكم آل بهلوي، جاء رجال معممون وملتحفون بسواد الحداد، ونقلوا البلاد من قلب الزمن الفارسي العلماني إلى قلب الزمن الإيراني الديني، وصار الشاه رضا بهْلوي طريدا شريدا هو وصاحبته وبنيه، لا يجد بلدا يؤويه، وعندما جاء مرة إلى الرباط انتفضت ضده جامعات البلاد بإسلامييها وعلمانييها، في وقت لم يكن فيه الصراع الطلابي على هذه الدرجة الخطيرة التي نراها اليوم. في زمن مضى، حتى البلدان العربية عرفت ثورات، لكنها كانت ثورات نظرية، يعني أن أي جيش يقوم بانقلاب فإنه يسمي ذلك ثورة، مثلما حدث في انقلاب عسكر مصر على الملك فاروق، وانقلاب القذافي على الملك ادريس السنوسي، أو مثلما حدث في العراق وسوريا والسودان واليمن، لكنها ثورات جاءت فقط لكي تنتج مجموعة جديدة من المستبدين والناهبين، وكانت تلك الثورات محتاجة إلى ثورات أخرى بعد مرور حوالي نصف قرن على حدوثها. الثورات العربية الحالية، ورغم أنها اشتعلت في الشارع، فإنها اختارت، طائعة أو مجبرة، أن تعقد قرانها على الأنظمة المطاح بها، وهكذا صار الأمر شبيها بزواج حصان أصيل بأنثى الحمار.. والنتيجة هي مستقبل على شكل بغل.