تصريحان هامان لرئيس حركة النهضة التونسية، راشد الغنوسي، يستحقان الوقوف لديهما بالتأمل والتفكير وعدم السماح بمرورهما سريعا، خصوصا وأن الأخبار تنزل كل يوم تترى، مما قد يعرضنا لفقدان الخيط الناظم لبضعها في لجة الزحام. التصريح الأول قال فيه الغنوشي إن دولة قطر شريك في الثورة من خلال إسهامها الإعلامي عبر قناة «الجزيرة» وتشجيعها للثورة «حتى قبل نجاحها»؛ والتصريح الثاني قال فيه إن المملكة العربية السعودية «لم تساند الثورة التونسية»؛ والتصريحان معا وردا في حوار صحفي أجراه الغنوشي مع إحدى الصحف المحلية في تونس. ما قاله الشيخ راشد الغنوشي، بعد صمت طويل ترك المجال مفتوحا للتكهنات ولبساطة التحليل، هو ما كان معروفا لدى الكثيرين منذ بدأت موجة ما يسمى ب«الربيع العربي»، ولكن هذه التصريحات المباشرة أزالت مبررات بعض المتشككين الذين كانوا يعتبرون أن الدور القطري في الأحداث التي عرفتها بعض البلدان العربية يقتصر على الدور الإعلامي فقط، من خلال قناتها الشهيرة، وليس وراءه أي حساب من الحسابات السياسية، وذلك غيرة على الإصلاح في المنطقة العربية لا غير. ومن هنا، فأهمية تصريحات الغنوشي تكمن في كونه يكشف، بشكل رسمي، عن لعبة المحاور السياسية في منطقة الخليج، بين السعودية وقطر، من خلال أحداث الربيع العربي وتداعياته. لم يعد خبرا جديدا اليوم أن إنشاء قناة «الجزيرة» في نهاية التسعينيات كان يندرج ضمن استحقاقات كبرى تقودها الولاياتالمتحدةالأمريكية في المنطقة العربية بشكل عام، والخليج بشكل خاص، عبر إعادة بناء العالم العربي؛ كما أنه ليس جديدا أن تلك المرحلة زامنت الحديث عن شرق أوسط جديد وما إليه من صيغ جديدة اشتغلت عليها الإدارة الأمريكية في حقبة ما بعد الحرب الباردة. هذه معلومات أصبحت قديمة اليوم، وقد أبرزت الأحداث التي حصلت فيما بعد سلامة ذلك التحليل. ويمكن القول إن تفجيرات الحادي عشر من شتنبر 2001 في الولاياتالمتحدة ساعدت أكثر على الدفع بالسياسة الأمريكية في الخليج خطوات أكبر إلى الأمام؛ فقد وجهت أصابع الاتهام إلى السعودية باعتبارها مشتل الفكر السلفي المتطرف الذي خرج تنظيم «القاعدة» من رحمه، وكان ذلك بداية الإبعاد التدريجي للدور السعودي في المنطقة لفائدة قطر. وبينما بذلت المملكة -البلد الأكبر في المنطقة- جهودا مضنية من أجل إعادة شرح الموقف السعودي وتحسين صورتها في أمريكا والغرب، لم تقدم الجارة قطر إلى شقيقتها أي عون من خلال آلتها الإعلامية، ممثلة في قناة «الجزيرة»، عبر إسداء خدمة إعلامية للسعوديين، وهو ما دفع هؤلاء إلى التفكير -ثم التنفيذ تاليا- في إنشاء قناة إعلامية خاصة هي «العربية»، تكون منافسة للقناة القطرية وتدافع عن الأطروحات السعودية. برزت السعودية بعد تلك المرحلة كبلد يعتبر حاضنة للفكر السلفي، هذا في الوقت الذي بدأ فيه هذا الأخير يتعرض لشيطنة واسعة على النطاق العالمي، بسبب الاتهامات التي وجهت إليه بوصفه مسؤولا عن المخاطر الإرهابية التي انزلق إليها العالم، وكان معنى ذلك أن المملكة بدأت تفقد نفوذها «الروحي» في العالم العربي والإسلامي، برعاية أمريكية غير معلنة. ومقابل هذه الصورة، أخذت تبرز صورة أخرى لدولة صاعدة في منطقة الخليج هي قطر، أعطيت جميع الإمكانيات السياسية للنجاح في أداء أدوار جديدة وسحب الإشعاع من الشقيق الأكبر في المنطقة؛ وتمثلت تلك الأدوار، على سبيل المثال، في عمليات الوساطة التي قامت بها في عدة ملفات ساخنة في المنطقة العربية، سواء تعلق الأمر بالقضية الفلسطينية أو الحرب بين الشمال والجنوب في السودان أو غيرهما من القضايا. أمام الخطر السلفي -وتنظيم «القاعدة» تعبيرٌ مكثف عن هذا التيار بالنسبة إلى الأمريكيين والغرب- أخذ الاتجاه يميل إلى دعم الاتجاه الإخواني المعتدل وتأهيله لكي يكون تيار المستقبل في المنطقة، خاصة أمام الانسداد الكبير لدى الأنظمة القائمة والقابلية الواسعة للانفجار. وقد كانت قطر تتوفر سلفا على ورقة رابحة في هذا المجال، من خلال وجود الشيخ يوسف القرضاوي فيها والدور الذي كان يقوم به في قناة «الجزيرة»، الآلة الإعلامية التي كانت مرشحة للعب أدوار جديدة في رسم معالم المرحلة المخطط لها. يمثل القرضاوي تيار الوسطية المقبول، لكنه في نفس الوقت يمثل جسرا ممدودا نحو التيار الإخواني بسبب الكاريزمية التي يتمتع بها لديه، والتي تجعله وسيطا جيدا مع مكوناته. أما بالنسبة إلى المملكة العربية السعودية، فإن القطيعة مع هذا التيار كان قد تم ترسيمها قبل حوالي عشر سنوات؛ فبعد أن كانت قبلة للإخوان المسلمين منذ الستينيات بسبب هروب الكثيرين من سجون جمال عبد الناصر إليها، سرعان ما دبّ الخلاف بين الطرفين عام 2002 عقب تفجيرات نيويورك وواشنطن وبدء الحملة الأمريكية على التيارات الدينية بشكل عام، بعدما صرح وزير الداخلية الراحل الأمير نايف بأن جماعة الإخوان أصل البلاء، فرد عليه المرشد السابق للجماعة مأمون الهضيبي منتقدا تلك التصريحات. وقد نجحت قطر في استغلال هذا الخلاف بين الطرفين لفائدتها فيما بعد. غير أن قطر لا يبدو أنها توقفت عند هذا الحد، إذ بدأت تتحرك في اتجاه سحب البساط من تحت المملكة السعودية حتى في الملف السلفي نفسه، بدعم أمريكي، تحسبا لأي دور محتمل يمكن أن يلعبه هذا التيار مستقبلا. وقد شكل تدشين أكبر مسجد في العاصمة الدوحة تحت اسم «جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب» ضربة سياسية للمملكة، وهو الحدث الذي أخرج الرياض عن صمتها، وصرح وزير داخليتها الراحل الأمير نايف بأن بلاده لن تتخلى عن سلفيتها التي أسست عليها، وقال: «إننا نؤكد لكم أن هذه الدولة ستظل متبعة للمنهج السلفي القويم، ولن تحيد عنه ولن تتنازل». لقد بدا واضحا أن الرياض أصيبت في المكان الحساس لديها، ذلك أن اسم محمد بن عبد الوهاب مرتبط بأصل المشروعية الدينية والسياسية في المملكة. وعندما يؤكد راشد الغنوشي اليوم الدور القطري في الثورة التونسية وينفي أي دور سعودي، يكون قد وجه رسالة سياسية على قدر خطير من الأهمية يساعد على قراءة التحولات السياسية التي تحدث في منطقة الخليج.