في فترات مختلفة من العقد الأخير، تبنت السلطات المحلية والمنتخبة في عمالة مقاطعة الفداء -مرس السلطان في الدارالبيضاء سلسلة من المبادرات لتنظيم الحركة التجارية في هذه العمالة، لكن جميع هذه المبادرات انتهت دون أن تحقق ما كان يرجى منها، لتظل «الحرب» قائمة بين أصحاب المحلات التجارية والباعة المتجولين في مرس السلطان والفداء إلى درجة أن عددا من التجار هددوا بالامتناع عن أداء الضرائب كرد فعل على ما يصفونه بتهاون السلطات العمومية في حل جميع الإشكاليات المرتبة عن ظاهرة «استعمار» الباعة المتجولين شوارع وأزقة الفداء -مرس السلطان. في العقد الأول من القرن الحالي، غادر سعيد قاعة الدرس، وبعدما أعياه الوقوف في «راس الدرب»، بدأ يبحث بجدية عن عمل يعينه على متاعب الحياة، خاصة أنه ينتمي إلى أسرة تعاني أوضاعا اجتماعية «صعبة». بحث سعيد في كل مكان، لكن الحظ كان دائما يعانده، إذ عجز عن تعلم أي حرفة تكون له سندا في مواجهة المستقبل، وفي الأخير، اكتشف أنْ لا طريق أمامه سوى أن يسير في خطى من سبقوه إلى التجارة، لأنها تدرّ أرباحا يومية بطريقة لا تتطلب سوى مجهود بسيط، عكس ما يتطلبه الأمر في بقية الحرف، كالنجارة أو الميكانيك. الرتبة الأولى دوما بعدما اتخذ قراره النهائي باحتراف التجارة، لم يتردد سعيد في شد الرحيل إلى أهمّ «مركز تجاري» ل«الفرّاشة»، وهو عمالة مقاطعة الفداء -مرس السلطان. لم يكن اختياره هذه المنطقة اعتباطيا، لأنها من أهم المناطق التي تعرف أكبر حركة تجارية في العاصمة الاقتصادية.. ويقدر بعض التجار رقم المعاملات التي يروج في هذه المنطقة بملايير السنتيمات، حيث لم تتمكن المراكز التجارية الكبرى في وسط المدينة أو المعاريف من انتزاع الرتبة الأولى التي تحتلها هذه المنطقة تجاريا. منازل أم محلات تجارية؟ يعتبر مستشارون جماعيون في مقاطعتي الفداء ومرس السلطان أن هذه المنقطة لم تعد سكنية في العقد الأخير، بل إنّ السمة التجارية صارت طاغية عليها، إذ تحوّلت مجموعة من المنازل السفلية في المنطقة إلى محلات تجارية ودخل بعض ملاك المنازل في صراعات ودعاوى قضائية ضد المكترين من أجل استعادة منازلهم من أجل تحويلها إلى مستودعات تجارية، حسب ما جاء في شهادة عبد الله، أحد سكان مرس السلطان: «هناك مجموعة من أصحاب المنازل دخلوا في دعاوى قضائية ضد المكترين لاسترجاع منازلهم السفلية وتحويلها إلى مستودعات تجارية، لأن ثمن المحلات التجارية تَضاعَف بشكل لم يكن أحد في هذه المنطقة يتصوّره، إذ أصبح ثمن بعض المحلات التجارية يفوق 100 مليون سنتيم».. زوار من كل مكان لارتفاع أسعار المحلات في مرس السلطان والفداء ما يبرره، فهاتان المقاطعتان تُعدّان من المناطق التي تستقطب يوميا الآلاف، من البيضاويين أو من زوار المدينة من مدن مختلفة، ولا يمكنك زيارة الدارالبيضاء ولو بشكل سريع إلا واضررت إلى أن تشد الرحال نحو «قيسارياتها».. لم يعد يحلو لخديجة ونجاة، وهما من سكان مقاطعة سباتة، شراء الأثواب وما يتعلق بالأثاث المنزلي إلا من «الحفاري»، التي ذاعت شهرتها في العديد من مدن المملكة. وبالنسبة إلى نجاة وخديجة فإن يجد المستهلك المفترَض يجد في «الحفاري» كل ما يطمح إليه، ولا داعي إلى التجول في باقي الأسواق الأخرى وتضيع الوقت فيها، «ما دام أنك ستجد في هذا السوق كل ما ترغب فيه». حكاية 30 سنة حكاية هاتين المواطنتين مع «قيسارية الحفاري» ليست وليدة اليوم، بل تعود إلى أزيد من 30 سنة، فخديجة تتذكر أنها من «الحفاري» بالضبط كانت قد اشترت لابنها، قبل أزيد من 3 عقود، كل ما يتعلق بعملية ختانه، حيث قالت: «راهْ مْن الحفاري شريتْ لولدي السلهام والبلغة والحْنّة والتمر.. راني ديما تانجي لهاذ القيسارية، ولكنْ هاذ الأيام ولات عامْرة بزّاف.. ما بقاتش غير الحفاري، قيساريات أخرى بانت بحال سوقْ الشمال.. في هاذ السوق راك تلقى السلعة تاعْ الشّمالْ كلها بْلا ما تمشي لتطوان، جي غير السوق تاعْ الشّمال».. قيساريات بأسماء مختلفة ذكريات هذه السيدة وغيرها مع أسواق مرس السلطان والفداء لا تنهي، وهي شبيهة بحكايات مجموعة كبيرة من النساء البيضاويات، فقيساريات الحفاري وزنقة الشمال وقيسارية المنجرة وغيرها كانت، وما تزال، قبلتَهم المُفضَّلة لشراء كل ما يرغبن فيه، ففي أسواق مرس السلطان، مثلا، لن تتعب كثيرا كي تعثر على ما تبحث عنه، في ظل وجود سلع مختلفة تتباين أسعارها وجودتها. الصورة الأخرى.. الصورة الجميلة التي يرسمها زوار قيساريات مرس السلطان ليست هي الصورة ذاتها بالنسبة إلى سكان وأصحاب المحلات التجارية في هذه القيساريات، فهناك تذمّر كبير من انتشار الباعة المتجولين في كل أزقة المنطقة، كما أصبح عبور هذه الأزقة يعتبر «امتحانا» حقيقيا لقياس نسبة تحمّل ومدى «صبر» كل مواطن، فهناك اكتظاظ كبير طيلة ساعات اليوم، خاصة في أوقات الذروة، التي تبدأ في الساعة التاسعة صباحا وتنتهي في منتصف الليل تقريبا.. ولم يعد سكان هذه المنطقة يستمتعون بلحظات من الراحة والهدوء في ظل صياح الباعة المتجولين، إلى درجة أن هناك من أصبحوا يفكرون جدّيا في بيع منازلهم والانتقال إلى مكان آخر، لكن المشكلة بالنسبة إليهم هي أنهم اعتادوا الاستقرار في هذه المنطقة. شكايات مصيرها الإهمال أكد صاحب محل تجاري في قيسارية الذهب أنهم، في مناسبات ولقاءات كثيرة، احتجوا على الانتشار المهول ل«الفرّاشة» وبعثوا مجموعة من الشكايات إلى الجهات المهنية، سواء تعلّق الأمر بالسلطات المحلية أو المنتخبة، لكنْ دون أي رد فعل، فهناك بعض الحملات التي تنهي قبل أن تبدأ في الأصل.. الامتناع عن أداء الضرائب كان مجموعة من التجار في هذه المنطقة وغيرها قد هددوا بالامتناع عن أداء الضرائب إلى خزينة الدولة، لأن تجارتهم تأثرت كثيرا من وجود ظاهرة «الفرّاشة».. واعتبروا أنه من غير المعقول أن يستمروا في أداء الضرائب في ظل منافسة غير متكافئة، فهناك المئات من «الفرّاشة» الذين يبيعون السلع نفسَها بأثمنة بخسة مقارنة مع أسعار التجار من مالكي المحلات التجارية، ما يجعل المواطنين يُقبلون على شراء احتياجاتهم من «الفْرّاشة» .. كما اضطر بعض التجار إلى الاستعانة بعدد من العاطلين عن العمل ومدّهم بالسلع لبيعها في بعض أزقة المنطقة، لعلّهم يُعوّضون بعض خسائرهم.. وفي هذا الإطار قال عبد الرحيم، أحد تجار المنطقة: «إن الباعة المتجولين يفرضون حصارا علينا من كل مكان، ويبيعون السلع بأثمان بخسة مقارنة مع أسعارنا، وقد بعثنا مجموعة من الشكايات إلى السلطات المحلية والمنتخبة وعقدنا لقاءات في غرفة الصناعة والتجارة لمناقشة هذه الظاهرة، إلا أن ذلك لم يكن كافيا لإيجاد حل لهذه الظاهرة، التي تنخر جسد الاقتصاد الوطني وتهدّد التجار الرسميين بالإفلاس». مسؤول يعترف.. اعترف مصدر مسؤول في مقاطعة الفداء بصعوبة حل مشكل «الفرّاشة» في هذه المنطقة، مؤكدا أنه تم اقتراح حلول كثيرة لاجتثاث هذه الظاهرة، لكنْ دون طائل، وقال: «لا بد أن نعترف أن ظاهرة الباعة المتجولين، الذين تحولوا مع مرور السنوات، إلى باعة قاريين، أمر واقع ولا يمكن القفز عنه، وأي حل لا يستحضر هؤلاء الباعة يكون محكوما عليه بالفشل الذريع». وأضاف المتحدث ذاته أن هناك مجموعة من الاقتراحات التي كانت محط نقاش مطوّل وعميق في عمالة مقاطعة الفداء مرس السلطان، ولكنْ، للأسف، باءت جميع هذه الاقتراحات، مع مرور الوقت، بالفشل، لتعود «حليمة إلى عادتها القديمة».. فوجود الباعة المتجولين في هذه المنطقة أصبح أمرا واقعا، ولا يمكن البحث عن أي مقترح بخصوص تنظيم عملية البيع والشراء في هذه المنطقة دون استحضار اقتراحات هؤلاء الباعة، لأنه لا يمكن، بجَرّة قلم، أن «نحرّر» شوارع مرس السلطان من المئات من الباعة الذين أصبحوا يعتبرون التجارة مكسبا مُهمّا لهم ومصدرا لرزقهم، وأي تعامل صارم مع هذه الظاهرة يمكن أن يؤدي إلى نتائج غير محمودة العواقب. 50 ألف «مطوية» قبل أربع سنوات تقريبا، رغبت السلطات المحلية والمنتخبة في عمالة مقاطعات درب السلطان، بتعاون مع غرفة التجارة والصناعة في الدارالبيضاء، في تنظيم أفواج الباعة المتجولين في هذه المنطقة، ووزعت السلطات وقتها ما يقارب 50 ألف «مطوية» لتوعية هؤلاء الباعة بضرورة الانخراط في عملية تنظيم التجارة في دروب وأزقة درب السلطان، وألصق ما يناهز 15 ألف ملصق تحسيسي في مجموعة من الشوارع والأزقة.. وقد اعتُبِرت هذه الخطوة بداية حقيقية لحل هذه المعضلة، بل هناك من لم يُخفون تفاؤلهم حينما وهم يؤكدون أن عمالة مقاطعة درب السلطان ستكون العمالة -النموذجَ في التصدي لظاهرة أرهقت كل من يتولى مهام تدبير وتسيير شؤون هذه المدينة.. لكنْ وبعد كل هذا الوقت، تبيّنَ أن إرادة التغيير اصطدم، مرة أخرى، بسياسة فرض الأمر الواقع، فقد أعلنت الكثير من الجهات فشل هذه المبادرة، معْزية هذا الفشلَ إلى غياب المواكبة من طرف الساهرين على عملية التنظيم، التي كان عليها،على الأقل، أن تكون هناك مواكبة للحملة لسنة تقريبا، لكن هذا لم يحدث، ما جعل الباعة المتجولين يعودون، من جديد، ليفرضوا «حالة حصار» على هذه المنطقة». أطروحات مختلفة تبيّنَ، من خلال دراسة سابقة للمديرية الجهوية المندوبية السامية للتخطيط، أن الأغلبية القصوى من الباعة المتجولين من أبناء درب السلطان، وهو الأمر الذي ينفي كل الأطروحات التي كانت تؤكد، دوما، أن جل الباعة المتجولين في المنطقة ليسوا من أبناء درب السلطان.. وما زال العديد من مستشاري المقاطعة متشبثين بهذا الطرح، وقال مصدر ل«المساء»: «لا بد أن يعرف الجميع أن العديد من التجار في هذه المنطقة هم من غير أبناء درب السلطان أو الفداء، وهم يُقبلون عليها من العديد من مناطق المدينة ومن خارجها».. وهو ما أكده سائق طالكسي قائلا: «في رمضان الماضي، قال لي أحد الشبان إنه كان يأتي فجرا ويضع مجموعة من «الفرّاشات» ومع طلوع الشمس، يبدأ يبيع المكان المخصص للبيع لبعض الباعة بسعر يصل أحيانا إلى 100 درهم للفراشة الواحدة، وهو ما كان يدر عليه أرباحا خيالية جدا».. يزكّي هذه الشهادة أكثرُ من مصدر في المنطقة، معتبرين أن هناك أناسا كثيرين يستغلون الفوضى العارمة الناتجة عن انتشار الباعة المتجولين لتحقيق أرباح دون أي مجهود، بينما يتخبّط التجار الحقيقيون في مشاكل كثيرة وأصبحت تجارتهم مهددة بالكساد.. الله يدوز النهار بخير.. مع توالي فشل المقترحات الهادفة إلى تنظيم الحركة التجارية في مرس السلطان، أصبحت السلطات المحلية عاجزة عن تبنّي أي تصور عمليّ من شأنه «تحرير» أزقة وشوارع المنطقة، وبات كل عامل يُعيَّن على رأس هذه العمالة «يتعايش» مع هذه الظاهرة، رافعا شعار «الله يدوز نهارنا بخير».. وفي هذا السياق، قال أحد مصادر «المساء»، تحفّظ عن ذكر اسمه: «هناك مبادرات كثيرة للقضاء على ظاهرة الباعة المتجولين، وقد سبق أن للسلطات أن حاولت التعامل مع هذه الظاهرة بكل حزم، إلا أن ذلك خلّف ردود فعل قوية من قبل مجموعة من الباعة، الذين نظموا وقفات احتجاجية في شارع محمد السادس، ولا يمكن، بأي حال، أن نكون صارمين في التعامل مع هذه الظاهرة بشكل حازم، خصوصا في هذه الظرفية، التي يطبعها ما يسمى «الربيع العربي» .. فنحن نحاول أن نبحث عن حلول باستحضار جميع الفاعلين في هذا المجال، سواء تعلق الأمر بالسلطات المحلية أو المنتخبة أو بالباعة المتجولين أو المجتمع المدني، فالجميع يجب أن يشاركوا في اتخاذ القرار المناسب لضمان نجاح أي عملية في المستقبل». وأوضح المتحدث نفسه أن «الربيع العربي زاد من استفحال ظاهرة الباعة المتجولين في هذه المنطقة وإنّ أيَّ حل أحادي لا يمكن أن يكون ناجحا، بل سيفشل في بدايته، والهدف هو تنظيم الحركة التجارية في أهم الأسواق التجارية، ليس فقط على مستوى المدينة، ولكنْ في عموم الوطن، وهذا يظهر من خلال رقم المعاملات الكبير الذي يتداوَل في هنا». جطو والباعة المتجولون لا يمكن الحديث عن المشاكل الناجمة عن ظاهرة «الفرّاشة» في مرس السلطان دون التطرق إلى القضايا المرتبطة بظاهرة الباعة المتجولين في عمومها، إذ فشلت جميع الخطط التي تبنّتها السلطات العمومية في اجتثات هذه الظاهرة، إذ كان الوزير الأول السابق إدريس جطو قد تحدث عن تخصيص 10 ملايير سنتيم لحل مشكل الباعة المتجولين، ببناء «الأسواق النموذجية».. إلا أن هذا المشروع «مات في المهد»، بسبب فشل هذه الأسواق في احتواء هذه الظاهرة. ويؤكد متتبعون لهذا الملف أن سبب الفشل يرجع، بشكل أساسي، إلى استفادة أناس لا علاقة لهم بعملية «البيعْ والشّْرا» من هذه المحلات التجارية، في حين أن المعنيين المباشرين بها ظلوا ينتظرون «الفرج» ..
الفداء يحتفظ بالصدارة في عدد «الفرّاشة» وفق دراسة سابقة كانت قد أنجزتها المديرية الجهوية للمندوبية السامية للتخطيط، ظهر أن عدد الباعة المتجولين على صعيد جهة الدارالبيضاء الكبرى يبلغ 128 ألفا و572 شخصا، وهو ما يعادل 10 في المائة من مجموع السكان النشطين. ويتمركز 13 ألفا و310 بائعين متجولين من هؤلاء في عمالة مقاطعات الفداء -مرس السلطان، ويوجد في درب السلطان 10 في المائة من الباعة المتجولين في الجهة. وأوضحت الدراسة، التي أنجزت سنة 2007، أن 95 في المائة من هؤلاء الباعة لا يمارسون نشاطا آخر وأن 80 في المائة منهم من الذكور، كما أن 86 في المائة منهم يقيمون في العمالة نفسها، في حين يلتحق ما تبقى منهم بدرب السلطان -الفداء، نظرا إلى معدلات الرواج التجاري التي يشهدها هذا الحي. وحسب الدارسة، التي ركّزت على عمالة الفداء -مرس السلطان، فقد حددت 30 نقطة بيع موزعة على مختلف تراب العمالة، وتبيّنَ أن عدد الباعة المتجولين يبلغ ذروته يوم الأحد بأكثر من 11 ألفا و235 بائعا متجولا.