تجدد السجال، بمناسبة الانتخابات المصرية، حول مفهومي الدولة الدينية والدولة المدنية، في المواجهة الانتخابية بين مرشح الإخوان المسلمين والمرشح المستقل أحمد شفيق، أحد رموز العهد السابق في مصر. ورأينا توزعا في المواقف والولاءات بين مختلف المعسكرات على خلفية ذلك الانقسام بين المفهومين اللذين تحولا إلى مفهومين ضاربين في الساحة السياسية المصرية، حتى إن العدوى انتقلت إلى الإخوان المسلمي ن في الأردن الذين بدؤوا يعلنون تبرمهم من مفهوم الدولة الدينية، وحذا حذوهم الكثيرون في مناطق أخرى من العالم العربي، ذلك أن التحرك الواسع الذي بدأ التيار الإسلامي يسجله في مرحلة الربيع العربي أعاد إحياء عدة مفاهيم سابقة صيغت في فترات متباعدة، جلها تمت صياغته إما كرد فعل متطرف على الأنظمة السياسية الحاكمة أو نتيجة لقراءات خاطئة للنصوص حولت الدين إلى قوالب معدة سلفا، مثل البيوت الجاهزة التي يمكن نقلها إلى أي مكان. وفي الوقت الذي يحاول فيه الإخوان المسلمون جاهدين التخلص من مفهوم الدولة الدينية الذي ألصق بهم طيلة تاريخهم الطويل، منذ نهاية عشرينيات القرن الماضي، يحاول المرشح الآخر، أحمد شفيق، استثمار هذا الصراع لصالحه عبر القول بأنه يمثل تيار الدولة المدنية، بينما يمثل الإخوان تيار الدولة الدينية. ومن الصعب الاقتناع بأن الإخوان غيروا تفكيرهم تجاه المفهوم القديم الذي كانت تحمله رموزهم، ذلك أن التحول السياسي القصير الذي حصل منذ إسقاط النظام في يناير الماضي لا يمكن أن يكون كافيا لإعادة النظر في مجمل الترسانة المفاهيمية التي كونوها خلال أزيد من ثمانين عاما. وبالرغم من أن أنصار الدولة المدنية داخل الإخوان، وخصوصا في أوساط الجيل الجديد، ربحت مساحات واسعة في الأعوام الماضية، فإن التيار الأوسع ما زال يميل إلى مفهوم الدولة الدينية حتى من دون الإعلان عنها بشكل صريح، ذلك أن الأمر لا يتعلق بمجرد إقرار علني بالمفهوم الذي يحمله هذا التيار، بل بالتصور العام للدولة والحكم والسلطة، إذ المفهوم في النهاية تعبير عن هذا التصور؛ فعندما نسمع، مثلا، دعوات إلى التطبيق الحرفي للشريعة الإسلامية فلا ينفع بعد ذلك أن يتم ترويج مفهوم الدولة المدنية، لأن الدعوة في حد ذاتها لا يمكن أن تكون ناتجة إلا عن تصور يرى أن وظيفة الدولة هي أن تقود المواطنين في الطريق التي تراها، وهذا هو جوهر الدولة الدينية. في السنوات الماضية، وتحت سنابك الصراع السياسي، وكذا بسبب الانقسامات الداخلية بين الإخوان المسلمين حول مفهوم الدولة والسلطة، بدأ هناك توجه يسير نحو تكريس مفهوم الدولة المدنية. وكانت الملاحظة الأبرز هي أن الإخوان في مصر -السرادق الذي سكن تحته جل الإسلاميين في العالم العربي أو خرجوا من جوفه- أضاعوا وقتا طويلا في التنظير للدولة الدينية، في وقت كان فيه التصور الشامل للصراع في العالم ينطلق من الصراع العقائدي؛ وعندما أرادوا العودة إلى مفهوم الدولة المدنية -التي هي الأصل في الإسلام- وجدوا أنهم ضيعوا أزيد من سبعة عقود من الزمن كرست لدى الناس سلفا ظلالا من الغموض حول أهداف الإسلاميين بعد الوصول إلى الحكم، ومن ثمة أصبح الخوف أمرا مشروعا، حتى إن هذا التخوف من أجندة الإخوان في مصر لم يعد يقتصر على المعسكر الذي كان يسمى تقليديا ب«العلماني»، بل شمل أطيافا داخل التيار الإسلامي نفسه، سواء كانوا من المستقلين أو من أبناء الإخوان السابقين، ويمكنني القول إننا نعيش اليوم انقساما في الولاء للفكرة الإسلامية ربما لم نعشه منذ نهاية القرن التاسع عشر، وهناك تحولات كبيرة -أكبر حجما- في الطريق. في الأسبوع الماضي، شرُفت بالمشاركة في حلقة نقاشية هامة حول الجماعات الدينية والسلطة في التاريخ الإسلامي، إلى جانب المفكر الكبير رضوان السيد والمفكر التونسي المعروف احميدة النيفر وأساتذة أجلاء آخرين، وكان من ضمن الأفكار التي دافعت عنها خلال تلك الحلقة ونالت تزكية الدكتور السيد، أن مفهوم الدولة الإسلامية الذي ارتبط في العصر الحديث بالحركات الإسلامية الدينية -يسميها الدكتور رضوان الإحيائية- ما كان ليظهر لولا انهيار الإمبراطورية العثمانية وميلاد الدولة الوطنية التي جعلت كل تصحيح للوضع آنذاك مرتبطا بضرورة بناء دولة بذلك المفهوم. لكن التطور الأبرز الذي أثر على فكر تلك الجماعات هو ظهور الدولة الاشتراكية وانتشار الأحزاب الشيوعية، مما دفع الإخوان المسلمين إلى اجتراح بنية تنظيمية حديثة جمعت -في سابقة من نوعها- بين بناء الجماعة الصوفية (الشيخ) وبناء الحزب الشيوعي (الزعيم)، علما بأن حسن البنا أحد نتاجات الطريقة التيجانية المغربية؛ لذلك فإن الكثيرين جدا لا يلتفتون إلى أن شعار الإخوان في مصر، المتمثل في السيف والمصحف وتحتهما كلمة «وأعدوا»، يعتبر استنساخا لشعار الاشتراكية السوفياتية ممثلا في المطرقة والمنجل، فكلا المشروعين بني على أساس مفهوم عقائدي للدولة، أي الدولة الشمولية، بل إن البنية التنظيمية للحزب أو الجماعة لدى الإسلاميين شكلت نسخة شبه مطابقة للبنية التنظيمية للأحزاب الشيوعية، حيث يقف الزعيم الفرد على رأس المجموعة وحيث لا يمكن الخروج عن أدبياتها، وحيث يكون الولاء للجماعة قبل الولاء للدولة، حتى مع افتراض وصول هذه الجماعة إلى الحكم.