بعد عشرة أشهر من أطوار «محاكمة القرن»، أصدر القضاء المصري، أول أمس السبت، حكمه بالسجن المؤبد في حق كل من الرئيس المصري المخلوع، حسني مبارك، إلى جانب وزيره في الداخلية، الحبيب العادلي، بعد إدانتهم بتهم التحريض على قتل المتظاهرين، الذين خرجوا للمطالبة بإسقاط النظام المصري السابق. وبرأت المحكمة معاوني العادلي الستة، الذين تمت متابعتهم في نفس القضية بتهم التورط في مقتل حوالي 850 محتجا أثناء مظاهرات المطالبة بإسقاط النظام، فيما حكمت بانقضاء الدعوى الجنائية في تهم الفساد الموجهة لمبارك ونجليه علاء وجمال، ورجل الأعمال المصري حسين سالم، معتبرة أن الوقت القانوني لإصدار حكم على خلفية تلك الاتهامات قد انتهى. وفور النطق بالحكم، وخروج القضاة من قاعة المحاكمة، اندلعت اشتباكات بين أنصار مبارك وعائلات الضحايا الذين وصفوا الحكم ب«الباطل»، ورفعوا شعارات تطالب بإعدام مبارك، فيما دعت جماعة الإخوان المسلمين المصريين إلى النزول إلى ميدان التحرير في وسط القاهرة، للمشاركة في مظاهرات احتجاجية على الأحكام الصادرة. وجاء هذا الحكم في ظرف سياسي دقيق في مصر، التي ستعرف على بعد خمسة عشر يوما من الآن جولة إعادة في أول انتخابات رئاسة بعد سقوط نظام مبارك، والتي يتنافس فيها محمد مرسي، مرشح جماعة الإخوان المسلمين باسم جناحها السياسي «حزب الحرية والعدالة»، وأحمد شفيق، آخر رئيس للوزراء في عهد حسني مبارك. النطق بالحكم «باسم الله الحق العدل.. حكمت المحكمة حضوريا لجميع المتهمين، عدا المتهم الثاني الغائب، أولا بمعاقبة محمد حسني السيد مبارك بالسجن المؤبد عما أسند إليه من اتهام بالاشتراك في جرائم القتل المقترن بجنايات قتل وشروع في قتل أخرى، موضوع الاتهام المسند إليه بأمر الإحالة». هكذا أسدل القاضي أحمد رفعت الستار على أول محاكمة لرئيس دولة عربية أسقطته عاصفة الربيع العربي، بعد أن سالت دماء المصريين في سبيل الثورة على حاكم جعل من شخصه نظاما لا يقدر أحد على التفكير في خلعه أو سقوطه، لكن الضغط الشعبي جعله يعلن تنحيه من الحكم بعد ثلاثين عاما من تربعه على كرسي الرئاسة. اعتقد مبارك أن تركه للحكم، تحت الضغط الشعبي، سيجعله يفلت من العقاب، لكن حياة الفقر والبؤس وقمع المظاهرات الرافضة لحكمه، بتقتيل أبناء وطنه، دفعت المصريين إلى إكمال ثورتهم حتى النصر، وإحالة «الديكتاتور» على العدالة، ليواجه تهمة التحريض على قتل المتظاهرين والتورط في ملفات الفساد. في جلسة النطق بالحكم، بدا مبارك على غرار الجلسات السابقة، مهزوما ومنقبض الوجه، راقدا على سريره الطبي، وبنظارات سوداء، تلقى الرئيس المخلوع حكما، وصفه البعض بالباطل وغير الكافي، لكنه سيبقى درس العمر في تاريخ حاكم جائر، وكل من سولت له نفسه أن يعبث بحياة شعبه. وقبيل النطق بالحكم، وصف أحمد رفعت، رئيس محكمة جنايات القاهرة، فترة حكم حسني مبارك بأنها «30 عاما من ظلام حالك أسود أسود أسود»، قائلا إن «الفقراء افترشوا الأرض وتلحفوا السماء وشربوا من مياه المستنقعات». ووسط حشود أمنية، أمنت مختلف أطوار جلسة النطق بالحكم، نقل مبارك على متن طائرة مروحية إلى سجن طرة في جنوبالقاهرة، لبدء تنفيذ حكم المؤبد الصادر في حقه، وسط أنباء عن دخوله في أزمة صحية حرجة بعيد نقله إلى السجن، حيث تم إدخاله إلى مستشفى سجن طرة لأول مرة، بعدما قضى فترة المحاكمة بالمركز الطبي العالمي. منظمة العفو الدولية قالت إن الحكم بالسجن المؤبد الصادر ضد حسني مبارك خطوة واضحة نحو التصدي لظاهرة الإفلات من العقاب التي سادت في مصر على مدى عدة سنوات، لكنها عادت لتؤكد أنه بالرغم من إدانة مبارك والعادلي والحكم عليهما بالسجن المؤبد، إلا أن براءة بقية المتهمين تظهر أن بعض كبار المسؤولين ما يزالون قادرين على الإفلات من العدالة. ردود فعل متباينة ما إن أعلن القاضي أحمد رفعت عن أحكام المؤبد في حق الرئيس الأسبق، حسني مبارك، ووزيره في الداخلية، الحبيب العادلي، مع تبرئة باقي المتهمين وانقضاء الدعوى الجنائية في اتهامات بالفساد وجهت لمبارك ونجليه علاء وجمال ورجل الأعمال المصري حسين سالم، حتى اندلعت اشتباكات بين أنصار مبارك وعائلات الضحايا، الذين اعتبروا هذه الأحكام باطلة، وطالبوا ب«إعدام» الرئيس المخلوع. وعرفت قاعة المحاكمة اشتباكات بالأيدي أسفرت عن عدة جرحى، فيما بدأت المظاهرات الرافضة تعم باقي المناطق احتجاجا على الأحكام الصادرة. وهتف المتظاهرون بسقوط المجلس العسكري وتطهير القضاء المصري، معتبرين أن هذه الأحكام تضرب في صميم الثورة، فيما تم توجيه دعوات لتنظيم مظاهرات حاشدة بميدان التحرير وسط القاهرة. وقد أسفرت الاشتباكات، حسب ما أعلنت عنه وزارة الصحة المصرية، عن إصابة 24 شخصا، على خلفية مواجهات أعقبت النطق بالحكم على مبارك ومعاونيه. وصرح الدكتور خالد الخطيب، رئيس الإدارة المركزية للرعاية الحرجة والعاجلة بالوزارة، أن 9 حالات تم نقلها إلى المستشفيات، بينما تم إسعاف 9 حالات أمام مقر الأكاديمية، و6 حالات من خلال العيادات المتنقلة. وأوضح الخطيب أن الحالات التسع التي نقلت إلى المستشفيات تمت إحالة 5 منها إلى مستشفى القاهرةالجديدة، وحالتين إلى مستشفى الشرطة لمجندين وحالتين إلى مستشفى البنك الأهلي. جماعة الإخوان المسلمين أكدت أن أعضاءها سينزلون في مختلف مناطق مصر وميدان التحرير بوسط العاصمة، للمشاركة في المظاهرات احتجاجا على الأحكام الصادرة. ونقل موقع جماعة الإخوان المسلمين قول المتحدث الإعلامي باسمها، محمود غزلان، في تصريحات صحفية إن الجماعة ستشارك في المظاهرات مع كل طوائف الشعب المصري ضد الحكم الذي وصفه ب«الصادم»، والذي صدر بحق قتلة «شهداء ثورة 25 يناير». وأكد أن جماعة الإخوان المسلمين تتضامن بشكل كامل مع أسر الشهداء، فيما تعهد محمد مرسي، مرشح الجماعة لانتخابات الرئاسة، بإعادة محاكمة مبارك ورموز نظامه في حال فوزه بالانتخابات. ووصف الأحكام الصادرة في حق مبارك وحبيب العادلي، مع تبرئة نجليه وستة من رموز وزارة الداخلية، ب«الهزلية»، مطالبا ب«بإعادة المحاكمة وتقديم الأدلة اللازمة للقصاص العادل». في المقابل، رحب أحمد شفيق، المرشح المستقل لانتخابات رئاسة الجمهورية، والذي سيخوض جولة الإعادة إلى جانب محمد مرسي مرشح الإخوان، بالأحكام الصادرة، وأكد أنه يحترم أحكام القضاء وسيكون منهجه إذا ما حصل على ثقة الشعب هو احترام القانون وتعزيز استقلال القضاء، ولا يمكنه كمرشح لرئاسة الجمهورية إلا أن يؤكد على قبول كل حكم قضائي. وأضاف شفيق، في بيان على صفحته الانتخابية على الموقع الاجتماعي «فايسبوك»، أن «أي رئيس قادم للدولة لابد أن يمعن النظر ويعي الدرس التاريخي، وهو أن رئيس الجمهورية السابق مثل أمام محكمة مصرية ينتظر حكم القانون عليه، فهذا يعني أنه لم يعد أي شخص في مصر فوق أي حساب ومساءلة»، معتبرا أنه «ليس من حقنا أن نعلق على أحكام القضاء. لكن الحكم الصادر يعني أنه لا أحد فوق المساءلة إذا رأى القانون ذلك، وأن جهات تطبيق القانون تحتاج إلى مزيد من الدعم كي تتمكن من تطبيق العدالة على خير وجه». وأوضح أن «تبرئة مساعدي وزير الداخلية الأسبق لا تعنى القبول من جانبي بأساليبهم، ولا طريقتهم في العمل، ولم يكن أحد يتفق مع تصرفاتهم ومنهجهم المرفوض»، مشددا في السياق ذاته على أن درس 25 يناير هو القبول الكامل باحترام الدولة عموماً، والشرطة خصوصا، لمبادئ حقوق الإنسان وحق المواطن في حرية التعبير والاعتراض في ضوء أحكام القانون. حكم قبيل جولة الإعادة الأحكام الصادرة في حق الرئيس المصري الأسبق، حسني مبارك، ووزيره في الداخلية، الحبيب العادلي، إضافة إلى تبرئة ستة من معاونيه ونجليه، علاء وجمال، تطرح أكثر من سؤال عن تأثير توقيت النطق بالحكم على جولة الإعادة المقبلة لانتخابات الرئاسة في مصر. وتزداد هذه التساؤلات حدة بعد تصريحات محمد مرسي، مرشح الإخوان لانتخابات الرئاسة، الذي وعد بإعادة المحاكمة إذا ما تم انتخابه رئيسا لمصر، وهو ما اعتبره المتتبعون استغلالا للحدث في حملته الانتخابية. وبينما استبعد بعض المحللين السياسيين إمكانية تأثير الأحكام الصادرة على جولة الإعادة، ذهب آخرون إلى حد القول بأن هذا الحدث يمكن أن يؤدي إلى انقسام حقيقي في الشارع المصري، خاصة إذا ارتفعت حدة الاحتجاجات على هذه الأحكام، التي يمكن أن يستغلها المرشحون لانتخابات الرئاسة، إما لإعادة الهدوء للشارع المصري واستتباب الأمن، أو إعطاء وعود بالاستجابة للمواقف الرافضة للأحكام الصادرة. إمكانية تفجر الوضع بمصر، في ظل المواقف المتباينة من الأحكام الصادرة، مردها إلى تبرئة المعاونين الستة ونجلي مبارك، حيث تركزت الاحتجاجات على ما وصف ب«تناقضات» الحكم ببراءة مساعدي وزير الداخلية على الرغم من إدانة العادلي ومبارك، فضلا عن تأكيد المحكمة على عدم وجود أدلة تثبت تورطهم بقتل المتظاهرين، فيما راج الحديث عن وجود سعي جهات أمنية لإخفاء الأدلة عن المحكمة، وطالبوا بتشكيل لجنة مستقلة لجمع الأدلة، وسرعة تحديد جلسة النقض والفصل بالقضية. وبعيدا عن احتمالات تأثير الأحكام الصادرة على جولة الإعادة في انتخابات الرئاسة المصرية، فإن حدث النطق بحكم المؤبد في حق مبارك والعادلي يشكل رسالة تحذير للرئيس المقبل، مفادها أن الشعب لن يضل طريقه نحو الميدان، إذا ما جنح الرئيس الجديد نحو الديكتاتورية، أو التجبر على شعب وضع ثقته فيه.
الطريق نحو زنزانة المؤبد لم يكن الرئيس المصري الأسبق، محمد حسني مبارك، يتوقع سقوطه من كرسي الحكم بعد تربعه عليه لأكثر من ثلاثين سنة، بل ومحاولته ضمان استمرارية آل مبارك في قيادة الشعب المصري، الذي عانى ويلات الفقر والتهميش والديكتاتورية. صدم الرئيس وهو يشاهد جموع المصريين خرجت تدعو لسقوطه، وتحت ضغط الثورة الشعبية العارمة، اضطر مبارك في الحادي عشر من فبراير 2011 إلى التنحي عن كرسي الرئاسة. نجا مبارك ببدنه، وخرج مطأطأ الرأس هاربا من القصر، لعله يجد في ذلك مخرجا من ورطته، لكن الاحتجاجات لم تشأ أن تتوقف، فما كان إلا أن توبع الرئيس بتهمة قتل المتظاهرين والفساد ، إلى جانب نجليه وعدد من معاونيه. وبين تاريخ تنحي مبارك عن كرسي الرئاسة، وتاريخ النطق بالحكم، تابع الجميع بشغف كبير فصول محاكمة رئيس شاء الشعب أن يقول كلمته في حقه بسلطة القانون، بعد أن رفض الرئيس أن يجعل كلمة الشعب في لحظات سابقة تعلو فوق صوت الديكتاتورية. في الثالث من غشت سنة 2011، بدأت فصول محاكمة مبارك وبقية المتهمين، ونقل التلفزيون المصري الجلسة على الهواء مباشرة، ليشاهد المصريون والعالم مبارك في قفص الاتهام للمرة الأولى، وهو ينكر التهم الموجهة إليه بقتل المتظاهرين والفساد من خلال التورط في الإضرار بالمال العام، لتقرر المحكمة في نفس الجلسة إيداع الرئيس المركز الطبي العالمي التابع للقوات المسلحة. ومنذ ذلك الحين، استمعت المحكمة لشهادة عمر سليمان، النائب السابق لمبارك، في قضيتي قتل المتظاهرين وتصدير الغاز لإسرائيل، وذلك في جلسة سرية، وشهادة المشير طنطاوي، رئيس المجلس العسكري، وعدد من الشهود الآخرين، في جلسات محاكمة بلغ عددها 49 جلسة. وفي الجلسة، التي سبقت جلسة النطق بالحكم، استمعت المحكمة لتعقيبات أخيرة من المتهمين، حيث حاول مبارك استعطاف المحكمة بترديد بيت شعر يقول: «بلادي وإن جارت علي عزيزة، وأهلي وإن ضنوا علي كرام»، لكن ذلك لم يشفع له في ثني القضاء عن النطق بالحكم بالسجن مدى الحياة، ليسدل الستار عن عشرة أشهر من محاكمة وصفت بأنها «محاكمة القرن».