فجأة، انقلب جو كان المعتدل مساء الأحد الماضي إلى جو عاصف ممطر فاجأ الجميع، رغم التوقعات التي عمّمتها الأرصاد الجوية الفرنسية. كانت العاصفة قوية إلى درجة أنها أسقطت جزءا من سقف قاعة الذكرى الستينية التي أقيمت قبل خمس سنوات وراء قصر المهرجان، مما اضطر المنظمين إلى تحويل العروض المُبرمَجة فيها صباح الاثنين إلى قاعات أخرى داخلية. الجميل أن التساقطات المفاجئة للأمطار سرعان ما ملأت الشوارع بعشرات (وربما مئات) الأفارقة، الذين لا يدري أحد أين كانوا مختبئين حتى ذلك الحين.. ظهروا وهم يعرضون مظلات صينية على كل من يريدون تجنب المطر، بأسعار تتراوح بين 10 و5 أوروهات (حسب رأس الزبون) أي أضعاف سعرها الفعلي الذي يتراوح بين أورو واحد واثنين.. لكنْ ليس هناك خيار آخر للهروب من المياه المتساقطة من السماء، والتي تتوقع الأرصاد الجوية هنا أنها ستستمر ليومين إضافيين على الأقل. من المفارقات الجميلة التي يمكن تسجيلها بهذا الصدد أن ظهور الإخوة الأفارقة في الشارع يبيعون المظلات تصادَف مع عرض الفيلم السنغالي «الزورق» للمخرج موسى توري، المشارك ضمن مسابقة «نظرة ما»، ذلك الفيلم الذي يروي، على وجه التحديد، حكاية مجموعة من الأفارقة، ينتمون إلى السنغال ومالي وإلى بلدان إفريقية أخرى، يتحدثون لغات مختلفة ويدينون بديانات متفرقة، لكنهم يجدون أنفسهم يواجهون المصير نفسه، محشورين في مركَب صيد تقليدي يغادر الشواطيء السنغالية، خلسة، نحو جزر الكاناري. لم يسبق لمعظم هؤلاء المهاجرين السريين أن غادروا قراهم، كما أن معظمهم لا يعرفون السباحة، وكما يحدث في معظم الحالات كذلك، يموت أغلب هؤلاء المهاجرين في رحلتهم القاسية، التي تستغرق أزيد من تسعة أيام، ويحكم على من نجا منهم وبلغ اليابسة بالعودة إلى بلده الأصل، بعد أن خسر مبلغا طائلا من الأموال وجرب مغامرة لن ينساها أبدا في ما تبقّى من حياته. استطاع المهاجرون الأفارقة الذين يظهرون فجأة لبيع المظلات كلما تساقطت الأمطار، حسب تصورهم، الفرار من الفقر والوصول إلى أرض طالما داعبت خيالهم من بعيد، ربما لا يتوفر عدد منهم الآن على بطاقات الإقامة، وربما يتوفر معظمهم عليها، لكن حالة البؤس والحرمان التي يعيشونها هنا، مفصولين عن أهلهم وتراب بلادهم، قد تكون أقسى وأمرَّ من معاناتهم في بلدانهم الأصل. لذلك يرفع المخرج السنغالي موسى توري (الذي اشتهر بإخراج العديد من الأفلام الوثائقية) صوته داعيا -في فيلم جميل تدور معظم أحداثه على متن سفينة الصيد السنغالية التقليدية وهي تقاوم أمواج المحيط العاتية- إلى إيقاف هذا «الوهم» (وهْم الرفاه في بلاد الهجرة) الذي أودى خلال سنوات معدودة بالآلاف من المهاجرين السريين الأفارقة. وبخلاف الأفلام الغربية، التي ركّزت على هموم شخصية أو ذاتية (ومن ضمنها فيلم الإيراني كياروستامي للأسف) اهتمت أفلام أخرى بقضايا إنسانية ذات أبعاد شاملة، مثل الفيلم الروماني المبرمج ضمن المسابقة الرسمية، «في ما وراء الضباب» للمخرج كريستيان مونجيو (سبق له أن فاز ب»السعفة الذهبية» عام 2007 عن فيلمه «4 أشهر، 3 أسابيع ويومان»). ويروي الفيلم الجديد حكاية «ألينا»، التي تعود من ألمانيا حيث تعمل لكي تأخذ معها إلى هناك صديقة طفولتها «فويشيتا»، التي لم تحبَّ أحدا في العالم كما أحبتها، لكنها تجد أن صديقتها التحقت بأحد الأديرة، ولم يعد ممكنا أن يملأ قلبَها حب غير حب الرب. وبين العاطفة البشرية واختيار الرهبنة والتعبد، تبنى بالتدريج خطوط يتقن المخرج حبك خيوطها خلال ساعتين وثلاثين دقيقة بالتمام والكمال لكي يوصلها إلى أقصى حدود المأساة والسوداوية القاتمة والدمار الذي لا يبقى بعده شيء. كما أثار فيلم آخر الاهتمام به ضمن مسابقة «نظرة ما»، وهو الفيلم الروائي الطويل الثاني «أبناء ساراييفو»، للمخرجة البوسنية عايدة بيجيك، التي سبق أن حصل فيلمها «ثلج» على الجائزة الكبرى لأسبوع النقد في كان عام 2008. وتدور حكاية الفيلم حول علاقة الشابة «رحيمة» بأخيها «نديم»، الذي يصغرها بتسع سنوات، وهما معا يتيمان، قُتل والداهما أثناء الحرب وعاشا في ميتم إلى أن كبرت «رحيمة» وحصلت على عمل مكّنها من أن تخرج أخاها من الميتم وتشرف على حياته ودراسته، لكنها تكتشف أن الأمر ليس بالسهولة التي تتصورها وأن المجتمع المثالي الذي تحلم به هو محض خيال. تروي المخرجة الحكاية بلغة قلقة متوترة، عمادها كاميرا محمولة على الكتف، تطارد البطلة (التي نتابع السرد عبر رؤيتها الخاصة) عن قرب وتجعلنا نعيش معها ما تحس به وما تعانيه بإيقاع سريع لاهث يذكّرنا بالتجارب الأولى للبلجيكيين الأخوين داردين («روزيتا»، بالخصوص)، لكنْ في سياق آخر هو ذاك المتخلف عن تشرذم دولة كانت تدعى، في السابق، يوغوسلافيا: من يذكرها الآن؟!..