هناك خطوات أو قرارات، من مثل إقامة السوق المشتركة أو التعاون الأمني أو المجالس الإقليمية في ما بين مجموعة من البلدان العربية، تحتاج إلى تبرير الأخذ بها منطلقا نفعيا من مثل استعمال منطق متطلبات السياسة أو الفوائد الاقتصادية أو مقتضيات التاريخ والثقافة المشتركة، أما قضية الوحدة العربية، سواء كانت بين قطرين أو أكثر أو سواء كانت تدرُّجيّة تنمو عبر مراحل جزئية أو كانت اندماجية شاملة تختصر الزمن، فإنها تحتاج إلى أن نبعدها عن منطق النفعية وعن مساومات الرِّبح والخسارة المؤقتة. ذلك أن الوحدة العربية، بأي شكل وفي أي مستوى، هي طريق بناء أمة عبر أفق الزمن اللامتناهي، وهي قفزة تاريخية هائلة. وبناء الأمم هو هدف وجودي وليس بمؤقت نفعي، ولذلك فالسمو والتعالي فوق المؤقت يحتاج بدوره إلى سموّ المشاعر: من التضحية في سبيل الكل، من تقديم المصالح المشتركة على المصالح الفرعية، من النَّفس الطويل الثابت غير المتذبذب بانتهازية المصالح والمكاسب، وأيضا من الإيمان القوي بأن بناء الأمة لن يكون على حساب الفرد أو حقوقه المكتسبة أو انتماءاته الفرعية الشرعية غير المتناقضة مع بناء الأمة. من هنا، يصبح هدف الوحدة أقرب إلى المقدس منه إلى العابر. مناسبة هذا الحديث هي ما طرحه عاهل المملكة العربية السعودية الملك عبد الله منذ شهور، وناقشته قمة مجلس التعاون الخليجي منذ أيام، بشأن ضرورة انتقال أقطار مجلس التعاون الخليجي من مرحلة التعاون، المتأرجحة بين النجاحات والتراجعات، إلى مرحلة التوحد. هذا الطرح الجديد، المعزِّز لما جاء في نظام المجلس عند قيامه والذي نصّ على أن الهدف النهائي للمجلس هو وصوله إلى وحدة دوله، يجب أن يؤخذ بجدية تامة وينظر إلى تفاصيله بتمعّن شديد. دعنا نذكّر أنفسنا بأن لهذا الموضوع خلفية وأفقا مستقبليا؛ أما الخلفية فإنها تتمثل في وجود دول صغيرة، جغرافيا أو سكانيا، بالغة الغنى ولكنها منكشفة اقتصاديا وأمنيا وسياسيا، وهي بالتالي تحتاج إلى أن تتوحد في كيان واحد لتغطية ذلك الانكشاف. أما أفق المستقبل، من الناحية الاستراتيجية، فإن منطقة الخليج لن تهدأ فيها الصراعات بكل أشكالها ما لم يوجد توازن ما بين ضفتي الخليج العربي يقوم على التساوي المتقارب في العدد السكاني وفي قوة ومتانة الاقتصاد وفي القدرات الأمنية، ولكنه أيضا توازن ندي متعاون متفاهم مندمج اقتصاديا منسّق سياسيا ومتناغم أمنيا، توازن يأخذ بعين الاعتبار أخوة ورابطة الإسلام المشتركة وطمع الكثيرين من الأعداء، وعلى الأخص العدو الصهيوني، في ثروات الطرفين. إن هذا التوازن الأخوي المتصالح السّاعي إلى العيش المشترك سيعني، عبر أفق المستقبل، قيام وحدة تبدأ بدول مجلس التعاون وتنتهي بانضمام اليمن والعراق. مبدئيا، هل توجد إشكالية في قيام مثل اتحاد كهذا؟ من المؤكد أن الجواب هو بالنفي بالنسبة إلى جميع شعوب هذه المنطقة. الجميع، على ضفتي الخليج، لا يمكن إلا أن يكسب. ومع ذلك فإن سيرورة الاتحاد، إن أريد لها النجاح، يجب أن تتوفر لها الشروط اللازمة. ومن أهم هذه الشروط تحقق الاتحاد بإرادة وقبول الشعوب، قيامه على أسس المواطنة المتساوية الديمقراطية، اعتماده على توزيع عادل لثرواته البترولية الهائلة في ما بين أقطاره وما بين مكونات شعوبه، احترامه لبعض خصوصيات أجزائه الاجتماعية والثقافية، رفضه للوجود الأجنبي وإصراره على استقلاله الوطني. الحديث عن توافر الأجواء والشروط اللازمة نابع من تجارب وحدوية عربية سابقة تعثرت ثم انتهت بسبب عدم توفر الحدود الدنيا من مقومات الحماية لتلك التجارب. لكن المبالغة في وضع الشروط التعجيزيه ستجعل قيام أي وحدة عربية أمرا مستحيلا، وهو ما يجب تجنُّبه من قبل الجميع. المطلوب الآن هو حصول هذا التوجه الوحدوي عند قادة دول مجلس التعاون على مباركة وحماس وقبولها المبدئي من قبل كل القوى السياسية، سواء في منطقة الخليج أو عبر الوطن العربي كله. أما التخوف من نيات هذه الجهة أو تلك فيجب ألا يقابل برفض التوجه نحو الوحدة وإنما بالتأكد من توفر الشروط والأجواء والمكونات الضرورية لحماية تلك الوحدة من الاستعمال الانتهازي. لنا عبرة في رجوع شطري ألمانيا إلى الوحدة بعد سقوط جدار برلين. لقد قبلت ألمانيا الاتحادية التضحية بالكثير الكثير من أجل رجوع وحدتها القومية مع جزئها المنفصل في ألمانياالشرقية، وهاهي اليوم تقف فوق قمة هرم الاتحاد الأوربي اقتصادا وقوة وتماسكا. المؤمل أن تكون وحدة دول الخليج العربية مقدمة لقيام وحدة دول المشرق العربي ومغربه، بل أن تكون مثالا يحتذى وعضدا لكل وحدة عربية جزئية تقوم. كل ذلك في انتظار يوم اكتمال قيام وحدة أمة العرب التي طال ليل الحلم بها ونهار السُّعي من أجلها من قبل أجيال وأجيال عربية. مرة أخرى، وحدة أمة العرب قضية وجودية وليست موضوعا نفعيا مؤقتا، إنها موضوع مقدس.