عندما أنهيت قراءة «اعترافات» خالد عليوة مدير البنك العقاري والسياحي، حيث يفتخر بوجه أحمر بأنه اشترى شقتين من ممتلكات البنك الذي يديره بالبيع المباشر، وبثمن أقل بكثير من ثمنهما الحقيقي في السوق، وأنه حصل على العقار طبقا للقانون مثله مثل أي موظف في البنك، تذكرت ما وقع للوزير الفرنسي «إرفي غايمار» الذي قامت عليه القيامة عندما نشرت الجريدة الساخرة «لوكانار أونشيني» مقالا تفضح فيه احتلال وزير الاقتصاد والمالية لشقة مساحتها 600 متر مربع على حساب الوزارة التي تدفع شهريا 14 ألف أور ثمنا لكرائها. مع أن وزير الاقتصاد يملك إقامة باسمه يخصصها للكراء. وقد كلف هذا الخبر وزير الاقتصاد منصبه الحكومي وقدم استقالته بعد أن تحول الخبر إلى فضيحة حكومية. وقبل فضيحة «غايمار»، كانت الصحافة الفرنسية قد كشفت في عهد الرئيس «ميتيران» أن الوزير الأول الاشتراكي «بيريغوفوي» قد استغل منصبه لكي يحصل على تسهيلات لأداء قرض بنكي كان قد أخذه. مجرد تسهيلات في الأداء وليس اختلاسات بالملايير كما وقع مع البنك العقاري والسياحي، ومع ذلك لم يغادر الوزير الأول الفرنسي منصبه فقط، بل غادر الحياة بعدما صوب مسدسه نحو صدغه وأطلق رصاصة أنهت حياته. وعندما علم الرئيس «ميتيران» بخبر انتحار وزيره الأول غضب من الصحافة التي نشرت الخبر القاتل، ووصف الصحافيين الذين نشروه بالكلاب. فرد عليه هؤلاء الصحافيون قائلين بأنهم يقبلون من الرئيس أن يشبههم بالكلاب، لكنهم لا يسمحون له بمنعهم من النباح كلما اقترب أحد المسؤولين من أموال دافعي الضرائب. هذا لا يعني أن الصحافة لم تكن تهتم سوى بأخبار الوزراء الفرنسيين الذين يستغلون نفوذهم، فقد كتبت الصحافة أيضا عن وزيرة الإسكان الاشتراكية في حكومة «ميتيران» والتي كانت تسكن في «ستوديو» لم تكن مساحته تتعدى 66 مترا مربعا. وليس مثل فيلا المدير التي بناها مولاي الزين الزاهدي فوق سبعة آلاف متر مربع بأنفا ليسكن فيها لوحده، والتي يفتخر خالد عليوة بأنه لو كان يريد أن يستحوذ عليها لفعل، لولا أن «شهامته» الاشتراكية منعته، فباعها البنك مؤخرا بأكثر من عشرة مليارات. وفي الوقت الذي يعترف فيه مدير البنك العقاري والسياحي أنه باع لنفسه العقار الفاخر، بموافقة مجلس المراقبة الذي يرأسه، وبتوقيع من موظفين يعملان تحت إمرته، وبثمن أقل بكثير من الثمن الذي طالب به البنك في السابق، نقرأ خبرا قادما من كندا بخصوص مطالبة حاكمة منطقة الكيبيك السابقة، «ليز تيبولت» بالمثول أمام لجنة برلمانية للتحقيق معها بخصوص تبذير أموال عمومية تصل قيمتها إلى 700 مليون سنتيم في اقتناء الهدايا وتعليم دروس الغولف والتزحلق على الجليد والأكل في المطاعم الراقية ورحلات الصيد. والمبلغ الذي تتابع بسببه حاكمة الكيبيك السابقة هو نفسه الثمن الحقيقي في السوق للشقتين اللتين استفاد منهما خالد عليوة والبالغة مساحتهما 500 متر مربع، والتي دفع مقابلها مدير البنك مبلغا لا يتعدى 180 مليون سنتيم. وفي هذه الأزمنة الصعبة التي يجتازها الاقتصاد العالمي، تبدو كل الدول الديمقراطية حريصة على حماية أموال دافعي الضرائب من جشع المسؤولين. وإذا كانت حكومة الكبيك تحقق مع حاكمتها السابقة حول تبذيرها لأموال الشعب على نزواتها الشخصية، فإن الرأي العام في إرلندا وحزب العمال المعارض أقاموا الدنيا ولم يقعدوها بسبب الحفل الباذخ الذي أقامه في مراكش وزير شؤون إرلندا الشمالية «شون وودوارد»، حيث صرف على كل حاضر في الحفل ثلاثين ألف جنيه استرليني. فقد رأى زعيم حزب العمال في هذا الحفل الباذخ الذي أقامه الملياردير احتفالا بعيد ميلاده الخمسين استفزازا للطبقة المسحوقة التي تعاني هذه الأيام من انعكاسات تدني مستوى النمو على حياتها اليومية. هذا بالنسبة للدول الديمقراطية. أما عندنا فإن مدير البنك العقاري والسياحي، الشاب خالد، لا يرى أي مانع في تفويت شقة من 500 متر لحسابه الخاص بمبلغ 180 مليون سنتيم رغم أن خبراء ماليين تابعين للبنك قدروا القيمة الحقيقية للشقة بمبلغ 300 مليون سنتيم. والمشكلة ليس فقط فارق الثمن الذي حرم منه عليوة البنك، وإنما في كون مالك الشقة الأصلي الذي حجز البنك في السابق على شقته كان مستعدا لدفع 180 مليون سنتيم مقابل استعادة عقاره. لكن البنك رفض قبول هذا العرض. وفضل بالمقابل بيع الشقة لسعادة المدير العام بمبلغ أقل من المبلغ الذي اقترحه صاحبها الأصلي. ولكي يبرر خالد عليوة مدير البنك ما قام به، قال بأن عملية البيع كانت قانونية. ونسي أنه حتى ولو كان القانون يسمح له بذلك، وهو القانون الذي يجب أن يتدخل البرلمان لإلغائه، فإن الوضع الحساس للبنك العقاري والسياحي وما تعرض له من نهب وسلب أيام الحسن الثاني لا يسمح للمدير، أخلاقيا، بأن يستغل منصبه للحصول على ممتلكات البنك الذي يديره. والخطير في الأمر أن خالد عليوة يرى أنه فوق المحاسبة، فقط لأن الملك هو الذي عينه بظهير على رأس البنك. وكأن الظهير الملكي يخول لحامله الحصانة لكي يفعل ما يريد دون أن يخشى المحاسبة. ولو أن الأولى بمحاسبة عليوة اليوم هو الباكوري مدير صندوق الإيداع والتدبير الذي يمتلك 51 بالمائة من أسهم البنك. لكن يبدو أن الباكوري غير متحمس لمراقبة أسهمه في البنك الذي يدير أموال اليتامى والمحاجير. فبالنسبة لمدير لا يخبر الرأي العام بنزول أسهم «سي. دي. جي» في شركات «وكالة الأسفار توي» و«فيفاندي» و«كلوب ميديتيراني» مؤخرا في البورصة الفرنسية بمئات الملايير، فكيف نريده أن يهتم بإخبار الرأي العام بقضية لا يتعدى حجمها المالي 700 مليون سنتيم. ولكي يغطي خالد عليوة على هذه الفضيحة، يتذرع بكونه تعفف عن الحصول على تعويضات على إنقاذه للبنك من الإفلاس. وهذه مغالطة كبيرة يريد بها السيد خالد عليوة حجب الحقيقة. فالذي أنقذ البنك العقاري والسياحي من الإفلاس ليس هو خالد عليوة، وإنما الشعب المغربي الذي دفع إدريس جطو من أمواله وضرائبه الملايير لانتشاله من الإفلاس الذي أوصله إليه لصوص المال العام الذين لازالوا طليقين إلى اليوم. ولم ينقذ المغاربة بأموالهم القرض العقاري والسياحي فقط، بل القرض الفلاحي وصندوق الضمان الاجتماعي. بحيث خصص جطو أكثر من عشرة بالمائة من الميزانية العامة عندما تسلم مقاليد الحكومة لسد الثقوب الكبيرة التي تركتها فئران الحسن الثاني في هذه الصناديق. وإذا كان خالد عليوة المعين بظهير يفتخر بكونه «تنازل» للبنك الذي يديره من حقه في التعويض تعويضه عن إنقاذه له من الإفلاس، فإن مصطفى بنعلي، المدير السابق للقناة الثانية والمعين كذلك بظهير، لم يهضم إعفاءه من منصبه وتعيين مدير آخر مكانه بظهير، دون أن يحصل على تعويض قدره ملياران من السنتيمات نظير «إنجازاته الباهرة» في القناة الثانية. كبنائه مثلا لأكبر أستوديو في إفريقيا، لا تستغله القناة سوى مرة في السنة، أو تركه لثقب كبير في مالية القناة قدره قضاة المجلس الأعلى للحسابات الذين زاروا القناة بحوالي تسعة مليارات سنتيم. ويبدو أن المدير السابق، الذي ظل يتقاضى 14 مليونا في الشهر زائد التعويضات، طيلة خمس سنوات من وجوده على رأس الإدارة العامة للقناة، ذاق حلاوة التعويضات التي يحصل عليها من وراء رفعه لقضايا ضد القناة الثانية. وإذا كان مصطفى بنعلي قد رفع اليوم دعوى قضائية ضد رئيس القطب العمومي فيصل العرايشي لتعويضه على الطرد التعسفي (وكأنه يعتبر إلغاء ظهيره الملكي وتعيين خلف له بظهير طردا تعسفيا) فإن تاريخ الرجل يذكرنا بقضية سابقة رفعها ضد القناة الثانية على عهد مديرها نور الدين الصايل، وطالب بتعويض عن الطرد التعسفي حددته له المحكمة في 300 مليون سنتيم أخذها نقدا وعدا. وعندما رجع كمدير على رأس القناة الثانية سنة 2003 ليخلف خصمه اللدود نور الدين الصايل على رأس الإدارة، قام باسترجاع أقدميته المهنية منذ 1989 وإلى سنة 2003. رغم أنه تقاضى تعويضات هذه الأقدمية عن طريق المحكمة التي أعطته تعويض 300 مليونا. وهكذا حصل المدير كما يقول الفرنسيون، الذين أحبهم بنعلي كثيرا إلى حد إغراقه القناة بهم، على الزبدة وثمن الزبدة. وهذا بالضبط ما يريده بعض المسؤولين الذين يتم تعيينهم على رأس مؤسسات عمومية بظهائر ملكية. عوض أن يعتبروا التعيين الملكي تشريفا وتكليفا لهم في نفس الوقت، يقتصرون على اعتباره تشريفا فقط. ويشهرونه كفزاعة لإخافة كل من يطالبهم بالحساب. أليس هذا هو الإخلال الحقيقي بالاحترام الواجب للملك ؟