تجتاح مصر موجة غير مسبوقة من الغموض والضبابية التي تحجب الرؤية تماما عن مستقبلها الذي استبشر به الجميع خيرا، وتجر معها كرها المجريات الميدانية والأحداث السياسية إلى مساق مُرعب، يبقى نُضج المجلس العسكري وقطع الطريق على كافة الضغوط والأجندات الإقليمية والدولية، وعودته إلى جادة الصواب الثوري، وحده الكفيل بإنقاذ البلاد من مهاوٍ ساحقة أخذت تغرق فيها. أحداث العباسية الدموية، التي خلفت وراءها عددا من الشهداء، لا تصب إلا في خانة تأجيج الوضع الأمني المتدهور أصلا، ومحاولة أخرى لسرقة الثورة أو جرها إلى مستنقع الاقتتال الداخلي، تعكيرا لأجواء الانتخابات الرئاسية المرتقبة -إذا كانت ستجري في الأصل- وفرض حالة من الفوضى عبر إرهاب الشعب المصري الذي شيد حلما صادقا بغد الثورة المشرق الذي أخذ يتحول إلى كابوس مزعج، تتحكم فيه أطراف محددة، يبقى المتهم الأول والأخير فيها هو المجلس العسكري. لن ندخل في ملابسات الأحداث، ولا في طريقة حدوثها، ولا حتى في كيفية استجلاب البلطجية «من ذوي اللحى»، حسب شهود عيان، في سيارات للأمن المركزي وتمريرهم عبر كمائن وهم مسلحون وسط قاهرة المعز للتنكيل بالمعتصمين وإجبارهم على الرحيل، وترهيب سكان العباسية قتلا وتفزيعا بُغية الوقيعة بينهم وبين المعتصمين. كما لا نتساءل عن كيفية التمركز الاستراتيجي للبلطجية فوق جسرين، بما يثبت أن الهجوم تم الإعداد له بدربة عسكرية صرفة وليست إجرامية مرتجلة. كما لا نفهم الحيادية السلبية وغير المسبوقة التي تعاملت بها الشرطة العسكرية مع إطلاق النار «المجهول» الذي تم في وضح النهار أمام وزارة الدفاع، والمفترض فيها أنها حامية البلاد والعباد؛ فكل هذه الملابسات إن لم تُدِن بالواضح والملموس المجلس العسكري المتواطئ على الثورة، فيمكن القول -كما تدعي أطراف أخرى- بأنها من قبيل المؤامرة التي تحاول النيل من شرف وثورية المجلس العسكري الذي يكاد ينفد رصيده النضالي والثوري الذي خدم مصر طيلة عقود خلت. على أية حال، شاء المجلس العسكري أو كره، فهو في قفص الاتهام، بعدما باءت كل محاولاته تباعا بالفشل، وكان آخرها استدراج أتباع حازم أبو إسماعيل إلى العنف المضاد، وجر منطقة العباسية التاريخية للحنق والسخط على الثورة ورجالها. فبعدما أيقنت كافة الألوان السياسية والثورية أن محاولات سرقة الثورة أو تدميرها أو الانقلاب عليها لم تتوان ولم تتعظ بفشل سابقتها، أخذ الأمر يفرض عليهم -كفرقاء وشركاء سياسيين- نوعا من النضج والحكمة في التفاعل مع مجريات الأحداث المتسارعة، من جهة، وقراءة ردود أفعال ومواقف المجلس العسكري من اليمين واليسار، وعلى كافة الاحتمالات بما فيها الانقلاب العسكري المحتمل الذي أخذ يلوح في الأفق إذا استمرت الأحوال على ما هي عليه الآن، خاصة عدم التوافق على آلية الجمعية التأسيسية. نعود إلى قراءة سطحية لأحداث العباسية، وكيف تم قنص المعتصمين واستهداف أعينهم، وأن أغلبية الإصابات في الرأس والصدر، إضافة إلى وجود ثلاثة معتصمين مذبوحين من ائتلاف الثورة، وتشويه ثلاث جثث أخرى.. ألا ينذر ذلك بأن الوضع الميداني أضحى في يوم واحد منه مشابها لمسلسل التقتيل الممنهج الذي ينهجه النظام الأسدي وشبيحته في سوريا؟ وأن النقلة التي شهدها إجرام البلطجية تجاوزت في شدتها معركة الجمل؟ ليطرح السؤال التالي: أين الأمن والشرطة العسكرية والمجلس العسكري من كل هذا؟ ألا تعد أحداث العباسية وما سبقها من جرائم محاولات لاستدراج الثورة إلى مربع الصفر، كورقة ضاغطة خفية يهدد بها المجلس العسكري الفرقاء السياسيين، وخاصة الإسلاميين منهم، وجاءت في وقت مناسب وغير عبثي عشية لقائه بهم وفي بدايات الحملة الانتخابية؟ الثابت والراسخ اليوم هو أن الكتلة السياسية قاطبة بكافة ألوانها الشبابية والثورية والحزبية، وفي مقدمتها بعض المرشحين للرئاسة (عبد المنعم أبو الفتوح.. محمد مرسي.. حمدين صباحي) الذين أوقفوا حملاتهم احتجاجا على أحداث العباسية، أخذوا في الرجوع إلى ميدان التحرير للاحتكام إلى مبادئ الثورة ولغة المليونيات وشعاراتها التي حسمت معركة إسقاط مبارك، ولازالت لها معركة الفصل، وهي معركة إسقاط نظام مبارك. قد كنت سباقا إلى القول بأن قرار إلغاء صفقة تصدير الغاز إلى إسرائيل -على ثوريته ووطنيته المحمودة جدا- ليس إلا سما في العسل، ستتبعه أيام عصيبة على الثورة المصرية والغرض منه تجديد الرصيد الثوري للمجلس العسكري الذي يكاد ينفد. فبعد أن هلل الجميع للقرار القومي الذي بمقدوره إعادة مصر إلى توهجها، نجد، على الأرض، أن الأمر عبارة عن توهم ناتج عن سراب قرار يبقى في ظاهره قوميا وثوريا، وفي باطنه التفاف على القضايا المصيرية للشعب المصري، وأولها وأهمها على الإطلاق إنجاح ثورته وإخراجها من عنق الزجاجة التي يخنقها به المجلس العسكري، المتلكئ في تسليم السلطة إلى المدنيين. إذا كانت أحداث العباسية لا تصب في صالح المجلس العسكري، فإن التلكؤ في إسقاط حكومة الجنزوري، كما صرح بذلك الدكتور الكتاتني من خلال تلقيه وعدا من المجلس العسكري بإقالة الحكومة، والتراجع عن ذلك فيما بعد، وما سبقه من أحداث مأسوية.. كل هذا يطرح تساؤلا حول ما الذي يريده المجلس العسكري من الثورة المصرية؟ وإلى أي اتجاه يدفع؟ الأكيد أن هناك ثورة ثانية تلوح في الأفق بعد هذا الغليان غير المحمودة عواقبه، قد لا تخرج عن سيناريوهين: إما أن ينتفض المجلس العسكري ضد الضغوط الإقليمية والدولية، ويسلم بالتالي السلطة إلى المدنيين دون توتير الأجواء أكثر مما هي عليه الآن، أو أن يتشبث بسلطة تحت أي مسوغ عبر الانقلاب العسكري، مما قد يفرض معه الثورة الثانية، التي لا يمكن لأي باحث أو محلل أو طرف سياسي أن يتنبأ بنتائجها. فما الجديد الذي قد تأتينا به الأيام المقبلة؟ كاتب وباحث