طلبت من الأطفال في حصة الكتابة الإبداعية أن يحكوا قصصا من واقعهم، وقفت طفلة وقالت لي إن صديقتها (نسرين) لا تسمعها عندما تتحدث، لم أفهم قصد الطفلة وطلبت توضيحا، فقالت لي.. أليس من المفروض عندما تتحدث أن يسمعك صديقك؟ قلت بلى! فقالت إن نسرين تضع أصبعيها في أذنيها وترفض أن تسمعها. قلت للطفلة إن هذا حق نسرين ألا تسمع بأذنيها، ومثلما نحن أحرار بجميع أعضاء جسدنا ولا نسمح لغيرنا بأن يستعملها أو يتدخل في شؤونها بدون موافقتنا، هكذا الأمر بالنسبة إلى أذني نسرين ممنوع أن نفرض على الآخرين سماعنا، ولهذا فإن نسرين حرّة في أن تسمع أو لا تسمع كلامك، فردت الطفلة بمرارة وغضب... ولكنها صديقتي ويجب أن تسمعني، وإلا فلن نبقى أصدقاء! تأثرت كثيرا من غضب الطفلة وقلت: «هذا صحيح، وإذا لم يسمعك صديقك فإنه ليس صديقا، بل وهذه قلة أدب من جانب نسرين أن تغلق أذنيها عندما تتحدثين معها». ناديت الطفلة نسرين لأسألها مستغربا عن تصرفها، فأسرعت ووضعت أصبعيها في أذنيها ولم ترد أن تسمعني، صرت أرجوها: نسرين يا عزيزتي عيب... ولك عيب أنزلي أصابعك، أنزلي أصابعك من أذنيك واسمعيني، ولكنها أصرت وبقيت واقفة وأصابعها في أذنيها لا تريد أن تسمعني. نسرين ما الذي جرى لك! ألا تريدين أن تسمعي صديقتك التي تحبك! ألا تريدين أن تسمعيني! لم تردّ نسرين وبقيت واقفة وأصبعاها في أذنيها.. قلت لها: إسمعي يا نسرين إذا رفضت سماعنا فنحن أيضا لن نسمعك عندما يأتي دورك في الكلام... فلم ترد.. قلت لها وأنا منزعج... قرد يحملك أقعدي في مكانك.. تضايقتُ من الطفلة التي لا تريد أن تسمع صديقتها (روعة) ولا أن تسمعني، رغم أن الأمر بدا لي مزحة في البداية، ولكنها نجحت في إثارة حفيظتي، يا لهذه الطفلة الوقحة التي لا تريد سماع أحد، إنه تصرف يثير الغضب بالفعل، وإن كان قد بدا مسليا في البداية، وقررت أن أنتقم منها، عندما يصل دورها في الكلام قررت أن أطلب من كل الطلاب أن يسدّوا آذانهم ولا يسمعوها كي ألقنها درسا... فجأة خطر في بالي هاجس يقول: إذا كانت هذه الطفلة شعرت بكل هذه المرارة، فأي مرارة تختزنها الشعوب التي يرفض حكامها سماعها! ثم كيف يريد الحاكم للملايين أن تسمعه وأن تطيعه بينما هو واضع أصابعه في أذنيه ولا يريد سماع شيء سوى تلك الأصوات الكاذبة التي تهتف بحياته، والتي تصفه بأوصاف الأنبياء، بل وترفعه درجة عنهم عندما تهتف له ذلك الهتاف الوضيع الذي يضعه مباشرة بعد الله.. الحاكم وبس.. شو يعني.. بسّ! يعني كل ما عدا الحاكم لا يساوي شيئا، يعني لا مفكرون ولا علماء ولا قادة ولا جيش ولا طلبة جامعات ولا أدباء ولا أي شيء، الله والحاكم وبس، ومن الواضح هنا أن كلمة (الله) توضع من باب الحيطة فقط لأن الحاكم لا يهمه أن يؤمن الناس أو لا يؤمنوا بالله... فالمهم أنهم يؤمنون بقدرته هو على قمعهم إذا ما رفعوا رؤوسهم... عندما صرخ الشعب غضبا، مثل تلك الصرخة التي يصرخها من يكون غارقا تحت الماء في اللحظة الأخيرة، لم يضع الحاكم العربي أصابعه في أذنيه فقط بل أطلق النار والحقد على كل صوت لا يشبه صوت تلك الأشباح التي تهتف ذلك الهتاف الوضيع، رد على الناس بأنه لا يريد منهم سوى صمت القبور أو الهتاف الذي أدمنه، ولهذا يتغير عشرات الرؤساء في مختلف أقطار الأرض بدون جريح واحد، بينما حاكمنا يخيّر شعبه بين الصمت أو الموت، وبعد دماء غزيرة ومقابر جماعية يتنازل ويغيّر بندا تافها في الدستور يضمن له استمرار ركوب الشعب... ولكن مشكلة الحاكم الذي لا يريد سماع شعبه أنه لم يعد قادرا على إخراس هذا الصوت، لأن الشعب لم يعد يقبل بالعودة إلى صمت النعاج، ولأن تقنيات الاتصال والتواصل تقدمت بصورة لا يمكن معها مصادرة أي صوت! تغيرت الدنيا كثيرا أيها الحكام، كنا نكتب رسالة حب ونمزّقها مرات حتى الوصول إلى صيغة نهائية، ثم ننتظر الفرصة لنقلها إلى الحبيبة، تمر ساعات وأيام ونحن محتفظون بالرسالة ولا تسنح الفرصة لتوصيلها، وقد تبقى الرسالة متنقلة من قميص إلى سروال إلى جورب ولا يكتب لها الحظ في الوصول إلى الحبيبة.. الآن بكبسة زر توزّع رسائل الحب إلى من تشاء ومتى تشاء في اللحظة التي تشاء، حتى إلى غرفة نوم الحبيبة فلا حرس ولا رقباء ولا خصوصيات، بل حتى وهي جالسة مع أشد الرجال بأسا، فالرسالة النصية قد تصلها بهدوء، تقرؤها وترد عليها ولا من شاف ولا من دري، لم تعد حبيبتك بحاجة إلى التظاهر بأنها خرجت لتأخذ رداء من على حبل الغسيل لتلقي عليها نظرة عابرة، لم تعد بحاجة إلى منظار والوقوف على سطح البيت كي تلاحق تحرّكها عسى ولعل أن توصل إليها رسالتك! رسائل الحب صارت تكتب وتصل عناوينها في البث المباشر مع الصورة والصوت، ومثل رسائل الحب هي رسائل الثوار... وعلى فكرة، الطفلة (نسرين) التي أغلقت أذنيها انفجرت ضاحكة فيما بعد.. فهي أذكى من أن تواصل رفض سماع الآخرين... سهيل كيوان