إمعانا في إطالة أزمات الشعوب العربية، تصر الولاياتالمتحدة على مقولة «الحوار» كواحد من أساليب الثورة المضادة، مع علمها بأن أيا من هذه الأنظمة لم يقدم تنازلا حقيقيا واحدا في مجال الإصلاح السياسي الذي يؤدي إلى المشاركة الشعبية في الحكم وإقامة أنظمة ديمقراطية. الحوار الذي يطرحه الأمريكيون يهدف إلى كسر معنويات الثورات وتمييع الشارع العربي وإبعاده تدريجيا عن الحراك الميداني، ونقل القضية إلى الدهاليز الضيقة التي لم تؤد يوما إلى تغير حقيقي في الأوضاع، وليس أدل على ذلك من بقاء القضية الفلسطينية رهينة الاجتماعات والمؤتمرات منذ مؤتمر مدريد قبل عشرين عاما. وقد استنتج الفلسطينيون بعد عقدين من الزمن استحالة تحقيق شيء ملموس عن طريق «الحوار» مع العدو الإسرائيلي. بينما استطاعت منظمات، مثل حماس وحزب الله، تحقيق بعض الإنجازات بأساليب المقاومة، ونجحت تلك الحركات في تحرير مئات المعتقلين اللبنانيين والفلسطينيين من السجون الإسرائيلية. لقد تحول الحوار إلى آلة لقمع الثورات، كما هي بقية الأجهزة التي تخضع لسيطرة الأنظمة الاستبدادية؛ فهذا الحوار يتحول تدريجيا إلى غاية تسخر لها الإمكانات والطاقات بدون أن يسمح له بالخروج عن أطر ضيقة تناقش الشكليات والأمور الإجرائية والهامشية وتتحاشى الأسئلة الجوهرية التي تمثل منطلق الثورات العربية: من يحكم البلاد؟ وكيف؟ هذا السؤال لا تطرحه قوى الاستكبار التي تتزعمها أمريكا، بل تريد دائما أن تقفز على الحقائق لتوحي بأن الأنظمة القائمة هي التي تحكم البلدان، وأن القضية تكمن في بعض الإشكالات الفنية. ومن ذلك، مثلا، ما يتشدق به المسؤولون الأمريكيون والبريطانيون للتدليل على حالة الإصلاح العظمى في البحرين، من أن الاعتقالات أصبحت الآن تتم على أيدي الشرطة وليس على أيدي عناصر أجهزة الأمن. إنه إجراء شكلي لا علاقة له بشعارات الثورة وأهدافها. فما الفرق بين أن يتم الاعتقال على أيدي الشرطة أم عناصر الاستخبارات ما دامت طريقة الاعتقال وما يصاحبها من اعتداءات وتعذيب مستمرة؟ إن أطروحة الحوار إنما تهدف إلى إشغال النشطاء بالاجتماعات المطولة والعقيمة في الفنادق الفخمة بعيدا عن الحراك الشعبي في الشوارع، ويفرغ طاقات النشطاء في اجتماعات مطولة لا طائل فيها، يحضرها أعداء الثورة وعناصر النظام وداعموه بأعداد هائلة تقلل شأن المعارضين وأثرهم. فإذا اعترض أحد على ذلك قال الأمريكيون: أنت لا تؤمن بالحوار، ثم يتم تصنيفه ضمن «المتطرفين». إنها لعبة النفوذ القذرة التي يتخلى المشاركون فيها عن الأخلاق والمبادئ والقيم؛ فالمطلوب منك إذا وافقت على حضور هذا «الحوار» أن تعرب عن ولائك للنظام والالتزام بدستوره وقوانينه، وتقديس رموزه، بل الأنكى من ذلك أن يطلب منك إصدار بيانات علنية تشجب فيها «العنف» المتمثل في حرق إطار في الشارع أو إلقاء قنينة مولوتوف، وألا تتعرض لممارسات أجهزة الأمن والمخابرات السلطوية تجاه الثوار، ولا تطرح قضايا التعذيب والقتل خارج القانون التي أتت على حياة العشرات من أبناء قومك. هذا هو «الحوار» الذي يروجه إعلام قوى الثورة المضادة والذي يطرح وكأنه المخرج الوحيد من الأزمة والطريق الذي لا يخطئ لاسترداد حقوق الشعب المسلوبة. وفي عالمنا العربي لا يذكر التاريخ أن مشروعا «حواريا» كهذا استطاع المشاركون فيه تحقيق شيء يذكر لشعوبهم، بل كثيرا ما نجم عن ذلك تخلي المشاركين فيه عن مواقفهم وانضمامهم النفسي إلى الطرف الآخر، والسباق على إصدار بيانات الشجب والاستنكار للمستضعفين الذين ربما دفع اليأس بعضهم إلى الرد بقنينة مولوتوف في مقابل دبابة أو عربة مصفحة أو طائرة عمودية تحلق فوق الرؤوس وقد تطلق النار على رؤوس المحتجين. فما أقبح ذلك وما أبعده عن الحق والعدل والإنصاف. في النظام العربي الديكتاتوري تم تأميم كافة أجهزة الدولة بأيدي الحاكم المستبد بعد أن فرض دستوره الجائر الذي يكرس السلطات بأيدي الديكتاتور، فالجيش ليس من أجل حماية الوطن وحدوده من العدوان الخارجي بل أداة لحماية الديكتاتور من غضب الشعب، فما إن تشتد الأزمة حتى يتم إنزال الجيش لقمع الثوار. ويتقاسم العسكر مع الديكتاتور السلطة، فعندما أصبح مبارك عبئا على التحالف مع العسكر، تمت إزاحته لينفرد الجيش بالسلطة. وها هو الجيش المصري يعيد عقارب الساعة إلى الوراء ويسيطر على السلطة ويبتز الأحزاب لمنحه صلاحيات واسعة ليبقى صاحب الحل والعقد في النظام السياسي المستقبلي. وتم إنزال الجيش في شوارع اليمن والبحرين وغيرهما لقمع الثورات، كل ذلك بدعم أمريكي غير محدود؛ فواشنطن مستعدة للصمت عندما ترتكب الجيوش مجازر في حق المواطنين المحتجين من أجل الديمقراطية، وليست لديها غضاضة في ذلك، بل تواصل سياستها رغم الانتقادات الشديدة من الجهات السياسية والحقوقية المعنية. وتأتمر الشرطة هي الأخرى بأوامر القصور الملكية أو الجمهورية، وتمارس القمع في حق المتظاهرين ببشاعة. أما التعذيب في الزنزانات فهو الأداة الفاعلة ضد المحتجين والثوار. وما دامت واشنطن داعمة للمعذبين والجلادين، فلا يهمهم ما تقوله المنظمات الحقوقية الدولية التي ما برحت تصدر التقارير والبيانات لشجب ممارسات الأنظمة القمعية والتنديد بسياسات التعذيب والقتل خارج القانون. الشعوب العربية لا تريد من أمريكا دعما، بل كل ما تطلبه أن تلتزم الحياد، لأن مطالبتها بالانحياز إلى الحق والمظلومين ونشطاء الديمقراطية ضرب من الخيال؛ فأمريكا ليست معروفة بالانتماء إلى الشعوب أو الدفاع عنها، بل إنها تعشق التحالف مع الظلم والديكتاتورية، وليس لها تاريخ في التصدي للطغاة أو المتجبرين، وحروبها في الدول العربية، مثل العراق وليبيا، لم تنطلق على أساس الرغبة في إنهاء العهود السوداء لأولئك المستبدين، بل انتقاما من زعماء عارضوها في فترة من حياتهم، فأصرت على استبدالهم بالقوة. لو التزمت أمريكا بالحياد لكان الوضع أفضل كثيرا، ولما استطاع الطغاة الاستقواء بها ضد الشعوب، ولتمكنت من إعادة قدر من التوازن في المنطقة بعيدا عن ظاهرة الاستبداد والتبعية. المشكلة أن أمريكا لا تستطيع الوقوف على الحياد، أو الالتزام بالقيم الإنسانية والأخلاقية في التصدي للظلم والاستبداد والديكتاتورية، بل أسست مصالحها على الظلم والتحالف مع الظالمين، ولذلك أصبحت مهمة الثوار مضاعفة: فهم لا يواجهون أنظمتهم الديكتاتورية فحسب، بل أمريكا وحلفاءها كذلك. هؤلاء هم الذين هندسوا سياسة تحويل الدولة كلها إلى أداة قمع، بجيشها وشرطتها واستخباراتها وقضائها وإعلامها. فإذا أراد الثوار تحقيق النصر فلا بد من تحييد هذه الأجهزة جميعا واستلالها من عباءة الحاكم، ومنعها من التحول إلى أدوات لقمع حركة ا لتغيير. وبدون هذا التحييد سيكون الديكتاتور قادرا على إلغاء أي اتفاق يتم التوصل إليه، لأن هذه الأجهزة تقضي على ما يكتبه القلم، خصوصا مع الدعم الأمريكي للديكتاتورية والاستبداد. وما لم يتم «تعويم» هذه القطاعات الخمسة فلن يكون هناك إصلاح أو تغيير أو تطوير في الجهاز السياسي للدولة.