قتلت سلطة الاستبداد، تحت قيادة النظام السوري الحالي وشبيحته، أكثر من اثني عشر ألفا من السوريين أمام مرأى العالم، واجتاحت مدنا وقرى ودمرتها على رؤوس ساكنيها، دون أن تجد من يلجمها أو يحد من جرائمها التي فاقت كل تصور؛ فبالرغم من قراري مجلس الأمن 2042 و2043، فإن آلة قتل السلطة ما زالت تحصد الأرواح في مدن وبلدات وقرى عديدة، وقد سقط منذ الإعلان عن وقف إطلاق النار يوم 12 أبريل الماضي أكثر من ألف شهيد. وعليه، فإن أنظار السوريين تتجه إلى الطريقة التي سيتعامل بها المجتمع الدولي مع مأساتهم، فما هو رقم الشهداء السحري الذي سيحرك المجتمع الدولي ويدعوه إلى التدخل الإنساني في سورية؟ إن المبادئ الإنسانية التي تحث على التدخل لا تعدمها سورية: عشرات آلاف القتلى والجرحى والمعتقلين والمفقودين ومئات آلاف النازحين واللاجئين، والحملة العسكرية-الأمنية الشرسة التي دفعت السيد أحمد فوزي، الناطق باسم عنان، إلى القول: «النظام لا يسعى إلى إفشال المراقبين فحسب بل وإلى الانتقام من المواطنين الذين يعرضون للمراقبين حقيقة ما يجري»، واحتكار النظام السوري كل أسباب القوة، من جيش وشرطة وأجهزة أمن واستخبارات وشبيحة، مقابل شعب وقف بشجاعة مطالبا بالحرية والكرامة، إلا أنه لا يستطيع بوسائله البسيطة، بما فيها تضحيات أفراد الجيش السوري الحر، دفع جبروت سلطة الاستبداد. لقد تطورت منظومة الشرعة العالمية لحقوق الإنسان من كون سلطات الدول هي المعنية الوحيدة بما تفعله لمواطنيها إلى أن السيادة تفرض مسؤولية هذه السلطات تجاه شعوبها، وحق المجتمع الدولي في مساءلتها عن التزاماتها بالشرعة العالمية لحقوق الإنسان. وشكّل هذا الرصيد المتنامي والمتطور للقانون الإنساني الدولي النواة الأساسية، المعرفية والأخلاقية والإنسانية والعرفية، التي أفسحت في المجال للتدخل الأممي الإنساني في الدول، فيما إذا وقعت جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية أو جريمة الإبادة الجماعية، بل إن هذه المنظومة تطورت نحو إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، على افتراض مؤداه أن القادة والمسؤولين الذين يتحملون، بحكم مواقعهم وأدوارهم، مسؤولية ارتكاب جرائم ضد الإنسانية يجب أن لا يفلتوا من العقاب العادل. إن العالم شهد ويشهد تغيرات مهمة، سواء في بنية النظام الدولي أو إدارته أو أولويات موضوعاته، حيث تجاوزت متطلبات العمل الإنساني القواعد التقليدية، وفي مقدمتها الطبيعة الخيرية للاستجابة الإنسانية، إذ أصبح ممكنا للمجتمع الدولي ممارسة مسؤولياته التي تقتضي أحيانا تخطي السيادة الوطنية للدول والتدخل في شؤونها عند الحالات الطارئة، سواء تم ذلك عبر فرض العقوبات الدولية أو عن طريق استخدام القوة في أسوأ الحالات، بهدف إنقاذ حياة المواطنين. وفي الواقع لم يعد من الممكن التمييز الكلي بين الداخلي والخارجي، بين الوطني والعالمي، بسبب ثورة الاتصالات وتشابك المصالح والمشتركات الإنسانية، وإذا لم يعد من الممكن التعامل مع الدولة حسب نموذج «الصندوق المقفل» لأنه لم يعد مقفلا على صعيد الواقع فإنه أيضا ليس من الممكن فتح الدولة كليا للخارج، مما يفترض تحديد شروط التدخل وكيفية تنفيذه، مثل تحديد ما يعتبر «صاعق التفجير» للتدخل أو لحظة حتمية اللجوء إليه، ومثل اعتماد مقاربة تدريجية لمحاولة إحداث تسوية للأزمة لتلافي التدخل المباشر. وفي حال الفشل في ذلك، تحديد الطرف الذي يقوم بالتدخل، إذ من المفترض أن تكون الأممالمتحدة بقوات سلام أممية، أو من خلال إعطائها غطاء شرعيا لمؤسسة دولية للقيام بذلك، شريطة أن يتم تحت مظلتها وأن تقود هي التدخل. ويعكس المشهد الإنساني الراهن عدة عناصر، من أهمها: 1) حق المساعدة الإنسانية، من كونها استجابة خيرية تحكم علاقات الأطراف إلى حق للضحايا في تلقي المساعدات الإنسانية. وأعتقد أن النظر إلى المساعدات الإنسانية على أنها حق يلغي تقديرات الاستجابة الطوعية ويزيل عوائق وصول المساعدات إلى الضحايا التي قد تضعها السلطات لأي سبب من الأسباب؛ 2) حق الوجود الإنساني، إذ يبدو واضحا أن تسييس العمل الإنساني يعبر عن المشهد الراهن لتدخل بعض الدول لإيصال المساعدات الإنسانية، وإن تم ذلك باستخدام القوة؛ في حين اختبأت دول أخرى وراء ستار السيادة لمنع وصول المساعدات وفي بعض الأوقات ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، كما هو الحال في سورية منذ مارس 2011. وهكذا، يقتضي التدخل الإنساني إمكانية تقديم المساعدة الإنسانية ولو بوسائل عسكرية إذا استدعى الأمر ذلك، عبر مناطق وممرات آمنة، من أجل إغاثة السكان ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، دون الحصول بالضرورة على موافقة الدولة المعنية. ولا شك أن المفهوم واجه -منذ البداية- عاصفة من التشكيك والانتقاد ما فتئت تتصاعد، خصوصا مع تكريس طابع الانتقائية والتسييس لبعض العمليات التي تمت تحت شعار الديمقراطية والتدخل الإنساني منذ بداية تسعينيات القرن الماضي وحتى الآن. ففي 11 ماي 1993 تم التوقيع على خطة سلام تهدف إلى إنهاء الحرب البوسنية المشتعلة في وسط أوربا. وحسب الخطة، كان يتعين على صرب البوسنة وقف قصفهم لسراييفو، حيث يقاسي المسلمون البوسنيون من حصار امتد لسنة كاملة، وكانت الفكرة الداعمة لإمكانية نجاح الخطة هي احتمال تدخل القوى الغربية عسكريا لضمان تطبيق وقف إطلاق النار. ولم تحدث النقلة النوعية إلا في يوليوز 1995 عندما قتل صرب البوسنة أكثر من سبعة آلاف مسلم في سيبرينتشا، وهي اللحظة التي قرر فيها الغرب التحرك لوقف المجازر، فاستخدم حلف شمال الأطلسي سلاح الجو لوقف هجمات الصرب على سراييفو. وبحلول دجنبر 1995 كان حوالي 60 ألف جندي من قوات «الناتو» يشقون طريقهم في اتجاه البوسنة لتطبيق اتفاق السلام. وبحساب الكلفة البشرية، خسر مسلمو البوسنة الآلاف من الأبرياء، ما بين عامي 1993 و1995. ومن جهة أخرى، هناك جرائم دولية حددتها النصوص والمعاهدات والاتفاقيات الدولية كجرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية، ووضعت قواعد خاصة بشأنها كمبدأ المساواة بين المساهمين لناحية المسؤولية الجزائية وعدم خضوع جرائمهم لمرور الزمن وعدم إفلات المسؤولين من العقاب، مهما علت وظيفتهم في الدولة، وعدم سريان الحصانات الدبلوماسية في حقهم (الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش ومعاوناه كاراديتش وميلاديتش)، والحال أن ما يحصل في سورية من أعمال وحشية، ترقى إلى مصاف جرائم ضد الإنسانية، من شأنه أن يضع النظام السوري وبطانته في مرمى العدالة الدولية، وفي يوم ليس ببعيد. والأسئلة التي تطرح نفسها هنا هي: هل سيستطيع الشعب السوري الأعزل وحده إيقاف جرائم سلطة استبداد النظام السوري وشبيحته، أم إنه سيحتاج إلى الدعم الدولي، وما هو دور هذا الدعم وحدوده؟ ألم يصل المجتمع الدولي بعد إلى أن خريطة طريق المبعوث الدولي-العربي كوفي عنان، بما فيها المراقبين الدوليين الذين لم يستطيعوا حماية الشعب السوري، بل إن عدد القتلى قد وصل إلى ما يزيد على 1000 شهيد بالرغم من وجودهم؟ وهل يتوجب على السوريين، الذين يحتاجون إلى مؤازرة الأسرة الدولية للانعتاق من قهر سلطتهم الفاسدة، أن يدفعوا ثمن تلك المساندة وفق تسعيرة تفرضها شروط المصالح الدولية والإقليمية؟ ومع أن نتائج التدخل الإنساني قد لا تكون مثالية في جميع الأحوال، فإنها ساهمت في إنقاذ حياة الناس وهيأت الظروف للوصول إلى تسوية سياسية. وهذه هي الرؤية التي يتعين استحضارها في الحالة السورية المستمرة منذ أكثر من ثلاثة عشر شهرا، بعد أن شكل التضارب في المصالح الإقليمية والدولية نقطة الإنقاذ الأساسية لسلطة الاستبداد. إن الأثر الأكثر تشاؤما، الذي تركته لا مبالاة القوى الإقليمية والدولية الفاعلة أمام المأساة السورية، هو شعور السوريين بالمرارة، التي قد تدفعهم إلى تقبل مساعدة الجماعات الجهادية التي تبحث لنفسها عن قضية وأرض وشعب لقيادة المعارك، مما قد يؤسس لنوع من الانكفاء على الذات ورفض العرب والعالم ومخاصمتهم، في عصر سمته الأساس هي الانفتاح والشراكات الإقليمية والدولية.