يتعلق البحث بوضعية الدكاترة الحاصلين على أعلى شهادة علمية أكاديمية وطنية ودولية، الذين استدرجوا إلى مختلف أسلاك الوظيفة العمومية منذ منتصف العقد الأخير من القرن الماضي، ضمن أنظمة هجينة مختلة متنافرة جنت عليهم ماديا ومعنويا وعلميا وإدرايا ومهنيا، دون إعارتهم أدنى اعتبار واهتمام، فتم تقزيمهم وتهميشهم وتبخيسهم وتسويتهم بأصاغرهم شهادة كدبلوم الدراسات العليا المعمقة والماستر في السلم والدرجة والمهام والأجر والتعويض، بل تخويل الحاصلين على ما يعادلهما من الشهادات، كدبلوم مهندس الدولة ودبلوم «الدكتوراه» في الطب والصيدلة وطب الأسنان، أجرا أكبر مما لدى نظرائهم إلى حد تجاوز أجر الأطباء ضعفين ما يتقاضاه دكاترتنا شهريا! إن استناد الخطاب السياسي الرسمي إلى إجراء مباراة أساتذة التعليم العالي مساعدين كحل وحيد ونهائي لوضعية دكاترتنا المزرية والمزمنة، واختلاق مراسيم وقرارات تستبيح إدراجهم كغيرهم من حاملي الشواهد العليا في مختلف أسلاك الوظيفة العمومية دون استثمار ثرواتهم العلمية وتبويئهم المكانة التي يستحقونها، وعجز جميع الحكومات المتعاقبة عن إنصاف هؤلاء الدكاترة والاستجابة لمطالبهم المشروعة، واستفحال تردي وضعيتهم المفتعلة ما يربو على عقد ونصف من الزمن إلى حد الآن، ليترجم بالملموس مدى التواطؤ عليهم وحجم المؤامرة التي ألبست شكل تلكم المباراة، وجسامة وخطورة الهدر المطرد الذي استنزف ولا زال يستنزف مواردنا العلمية العليا نتيجة قوى التجهيل والتضليل والفساد والاستبداد المنمقة بمساحيق الديمقراطية والأصالة والتحديث والعدالة؛ كما يفسر بالدليل الدامغ معضلة إصلاح التعليم والإدارة بالمغرب، وعدم ورود مؤسساتنا التعليمية العليا ضمن التصنيف الدولي للجامعات في العالم لموسم 2011-2012 حتى في صفوفها المتأخرة حسب دراسة صادرة مؤخرا عن مجلة The Time Higher Education، تحت عنوان: «World University Rankings 2011-2012». نظرا إلى غياب دراسة شاملة حول الموضوع المتناول وما جر إليه من مغالطات واستشكال وخلط وغموض وأحكام مسبقة وديماغوجية وأخطاء متعمدة أو غير متعمدة في حقهم، ارتأيت من باب المسؤولية العلمية والوطنية والإنسانية والتاريخية خوض غمار هذا الموضوع لكشف النقاب عن الأضاليل والأخطاء والانتهاكات التي طالت وضعيتهم منذ إرهاصاتها الأولى إلى وقتنا الحاضر، قصد إنصافهم الذي هو في الآن عينه رهان إصلاح قطاع التربية والتكوين والإدارة والتدبير، العمود الفقري لكل رقي وتقدم وازدهار. دواعي التأليف إن أهم الدواعي التي أفضت بي إلى ولوج غمار هذا البحث، يمكن إجمالها في ما يلي: 1) جدة الموضوع المختار «وضعية الدكاترة في أسلاك الوظيفة العمومية ومعضلة إصلاح التعليم والإدارة بالمغرب»، وأهميته في شأن الإصلاح التعليمي والإداري والنقابي، من جهة، وكشف الفساد والاستبداد اللذين يعترضان سبيله، من جهة أخرى؛ 2) الانتهاكات الجسيمة المروعة التي طالت، ولا زالت تطال، دكاترتنا بمختلف أسلاك الوظيفة العمومية منذ ما يزيد على خمس عشرة سنة على كافة المستويات والأصعدة، طيلة ولايات أربع حكومات بصنفيها اليمينية واليسارية، على حد سواء؛ 3) وازع المسؤولية التاريخية والعلمية والإنسانية والوطنية الذي حفزني على سبر أغوار هذا الموضوع، سواء على المستوى العمودي أو الأفقي، بصفتي أحد الدكاترة المخضرمين المقاربين الأوائل لهذه الانتهاكات الذين عاصروا نظامي التعليم العالي القديم والجديد؛ 4) غياب صوت الدكاترة ضحايا هذه الانتهاكات في جميع ومختلف القرارات والمراسيم التي حيكت ضدهم بصفة مباشرة أو غير مباشرة، بدءا من استدراج دكاترتنا إلى مختلف أسلاك الوظيفة العمومية منتصف العقد الأخير من القرن الماضي؛ 5) انعدام دراسة شاملة حول واقع دكاترة أسلاك الوظيفة العمومية بمختلف بؤره التعليمية والإدارية والنقابية منذ إرهاصاته الأولى إلى يومنا هذا؛ 6) تركيز جل الكتابات المنجزة في هذا المجال على واقع دكاترة القطاع المدرسي دون نظرائهم العاملين في باقي أسلاك الوظيفة العمومية؛ 7) سيادة النظرة الجزئية الآنية في تناول ومعالجة دكاترة القطاع المدرسي لقضايا ملفهم المطلبي بصفة خاصة؛ 8) تشرذم مواقف دكاترتنا في مواقع تابعة ومنضوية ومنعزلة ومستقلة؛ 9) قصور ومحدودية النظر الحكومي، سواء في التعامل مع الملف المطلبي لجميع دكاترتنا أو في معالجته المرهونة بصدور قرار سياسي؛ 10) شيوع اللبس والمغالطات والأحكام المسبقة والديماغوجية والأخطاء المتعمدة وغير المتعمدة في حق هؤلاء الدكاترة باختلاف مواقعهم وانتماءاتهم؛ 11) تقادم مطالب تسوية ملفهم وانتهاك حقوقهم وتأزم وضعيتهم ما يزيد على عقد ونصف من الزمن. أهداف البحث أما عن الأهداف، فيمكن إيجازها في ما يلي: 1) إبراز خطورة وجسامة الانتهاكات التي طبعت وضعية دكاترتنا بأسلاك الوظيفة العمومية بسمة التهميش والحيف والتبخيس والتفقير والإذعان والتبعية والكبح والتكبيل والهدر والتنكيل والتسيب والحرمان والجحود والتصفية والتذويب؛ 2) تبيان العوائق والهفوات والزلات التي زادت من تردي وتقادم وضعية دكاترتنا وعرقلة معالجة ملفاتهم المطلبية؛ 3) طرح مسالك ورهانات من أجل تسوية وضعية دكاترتنا بمختلف أسلاك الوظيفة العمومية؛ 4) تحديد أرضية صلبة مؤهلة للحوار البناء والمناقشة الموضوعية المثمرة حول شأن التسوية الشاملة لوضعية دكاترتنا، مشذبة من الشوائب والعوائق، قائمة على أسس ومضامين المعرفة بواقع حالهم ومآلهم في مستوييه الأفقي والعمودي؛ 5) تحسيس الرأي العام الوطني بصفة عامة والمسؤولين المباشرين عن هذه الوضعية بصفة خاصة، بخطورة وآفة نزيف وتبخيس وتهميش أعلى رأسمال بشري وطني أكاديمي علمي ومعرفي نتيجة القوى الظلامية والرجعية، وبأهميته القصوى في تحديث وتنوير وتقدم البلاد والعباد؛ 6) سد فراغ كبير تشكو منه البيبليوغرافيا حول الموضوع المتناول بإنجاز دراسة نقدية تحليلية في شأنها تمكين المتلقي بمختلف مستوياته من اكتساب صورة واضحة عن وضعية دكاترتنا واكتناه معالمها في سياقيها العام والخاص؛ 7) إنصاف دكاترتنا علميا وقانونيا ومهنيا وماديا ومعنويا والذي أعتبره رهان إصلاح التربية والتكوين والإدارة والتدبير.