لا يكاد يمر شهر دون أن نسمع عن محكمةمن محاكم المملكة تتابع شابا أمامها بتهمة الإخلال بالاحترام الواجب للملك. منذ عهد الحسن الثاني والمتهمون بهذه الجريمة يمرون أمام محاكم المملكة وينتهون في السجن. أحدهم لم يكن سوى تلميذ في قسم للإعدادي طلب الأستاذ منه، ومن زملائه، أن يحكوا له عن الأحلام التي رأوها مؤخرا. فلما جاء دور التلميذ لكي يروي حلمه، وقف وقال بأنه رأى فيما يرى النائم أن النظام في المغرب قد سقط. فهزها الأستاذ «سخونة» للمدير والمدير هزها بدوره قبل أن تبرد في يده إلى القائد والقائد إلى الباشا والباشا إلى العامل. وهكذا وجد التلميذ نفسه أمام القاضي يستجوبه عن هذا الحلم اليساري المتطرف الذي تجلى له في المنام. وكأن التلميذ كان عليه أن يبلغ عن نفسه لدى الشرطة بمجرد تورطه في هذا الحلم الذي زاره دون إرادته، حتى يتبرأ منه ويثبت حسن أحلامه، حتى لا نقول حسن نيته. ورغم أن القاعدة الأصولية تقول بأن القلم مرفوع عن النائم حتى يستيقظ، إلا أن القانون المغربي لا يعترف، عندما يتعلق الأمر بالملكية، لا بالشواهد الطبية التي تثبت جنون وحمق الذين يقلون على الملك الاحترام، ولا بأحلام العاقلين النائمين منهم. فتم الحكم على التلميذ بالسجن النافذ. والعجيب أنه في الماضي كان المتهمون في مثل هذه القضايا يمثلون أمام القضاء مساندين بمحاميهم، وليس مثل اليوم حيث يحكم القضاء عليهم في أول جلسة دون تمتيعهم بحق الدفاع. وهكذا تدخل محامي التلميذ وقال للقاضي بأنه عندما يرسل تلميذا في السادسة عشرة من عمره إلى السجن فإنه يحرم المجتمع من مواطن كان يمكن أن يكون في المستقبل طبيبا أو مهندسا أو حتى رئيس دولة. وهنا وقفت للقاضي قرون الاستشعار بمجرد سماعه للمنصب المستقبلي الذي قد يحتله التلميذ. وبما أن نظام الحكم في المغرب ملكي، ولا يسمح لأي فرد من أفراد الشعب بأن يطمح لأن يكون في يوم من الأيام رئيس دولة، فقد أمر القاضي باعتقال المحامي ومحاكمته بسبب مجرد تخيله إمكانية تطبيق النظام الجمهوري ذات يوم في المغرب. وحكم عليه بسنتين سجنا نافذا، وهكذا كان قدر التلميذ أن يغادر السجن قبل محاميه. واليوم، والمغرب يقترب من إقفال السنة العاشرة على انطلاق العهد الجديد، تصدر المحكمة حكما بالسجن في حق شاب في الثامنة عشرة من عمره لسنة ونصف، قبل أن تقرر متابعته في حالة سراح، لأنه كتب على الحائط شعار المملكة، وعوض شعار الملك فيه بشعار «البارصا». الحكم اعتبره الجميع في المغرب قاسيا جدا، وكان يمكن أن يعالج بطريقة أخرى أقل تشنجا. أما جيراننا الإسبان فقد فقدوا صوابهم وجن جنونهم. خصوصا محبو فريق «البارصا». وذهبت إدارة الفريق البرشلوني إلى حد منح التلميذ ياسين بلعسل جواز سفر رمزي. ففي إسبانيا هناك ديانة يمارسها الملايين بخشوع عميق وهي كرة القدم. ويمكنك في إسبانيا أن تسب وتشتم الملك خوان كارلوس وعائلته وجذوره أجمعين، لكن عليك أن تنتظر الزوابع والتوابع إذا أنت غامرت وشتمت «البرصا» أو «ريال مدريد». فكرة القدم هي المقدس الوحيد عند الإسبان. وفي الوقت الذي تقفل الكنائس أبوابها بسبب ندرة المصلين تبني الدولة المزيد من الملاعب لاستيعاب ملايين المتعبدين في المدرجات والمتهجدين بترتيل الأناشيد الرسمية للفرق الكروية. ولعل الجميع لاحظ أن العدالة المغربية بسقوطها في فخ إصدار هذه الأحكام المفرطة في القسوة في قضايا الإخلال بالاحترام الواجب للملك، ساهمت في إضفاء مسحة من السخرية السوداء على القضاء المغربي. فسمعنا الشاب المغربي المتابع في قضية «البارصا» يقول بأنه لم يكن يقصد بما كتب ملك المغرب وإنما ملك الجزائر. فنبهته المحكمة إلى أن الجزائر لديها نظام جمهوري وليس نظام ملكي. ولو أنني أختلف مع المحكمة الموقرة فيما ذهبت إليه بخصوص النظام الحاكم في الجارة الجزائر. فلا هو نظام جمهوري ولا هو نظام ملكي. خصوصا أن الرئيس بوتفليقة يستعد للجلوس على عرش قصر المرادية لولاية ثالثة على التوالي. وحتى إذا تخلى عن الرئاسة، أو تخلت عنه، سيرثها من بعده أحد رجالات الجيش الأقوياء. وما قاله الشاب المتابع في قضية «البارصا» بخصوص ملك الجزائر، يشبه كثيرا تلك النكتة التي انتشرت في عهد الحسن الثاني، والتي تقول أن شابا أحمق هرب من البيت إلى الشارع وبدأ يشتم ويسب الملك. ولأن والدته كانت خائفة عليه من الاعتقال والمحاكمة بتهمة إهانة المقدسات، رغم شواهده الطبية التي لن تنفعه أمام القاضي، فقد كانت تركض خلفه وتصرخ ملء صدرها كلما أطلق ولدها شتيمة في حق الملك قائلة «وتاع صبانيا تاع صبانيا». وهكذا ظلت الأم المسكينة تركض وراء ابنها ناشرة هذا التوضيح في كل الأماكن التي يطلق فيها هذا الأخير شتائمه المجنونة، حتى تحميه من شر المتابعة. وإذا كانت هذه الحكاية يرددها المغاربة على سبيل النكتة، فإن أحكاما قضائية صدرت مؤخرا تفوقت على هذه النكتة، بحيث تستحق أن تدرج في كتاب خاص بالأحكام الغريبة يكون عنوانه «غير شد كرشك وضحك». وأحد هذه الأحكام هو الحكم على سيدة وقفت أمام المحكمة تطلب الطلاق بستة أشهر سجنا نافذا، لأنها قالت للقاضي عندما سألها عن أسباب طلبها للطلاق بأن زوجها لا يهز ولا يحط، وأنه يبقى في البيت طيلة النهار واضعا رجلا فوق رجل «بحال شي ملك». وهكذا لم ينفع القضاء ولا مدونة الأسرة الزوجة في التخلص من زوجها الكسول، وإنما زوجها الكسول هو الذي تخلص منها بعد أن أرسلها القاضي إلى السجن بتهمة الإخلال بالاحترام الواجب للملك. مع أن ما قالته الزوجة ليس فيه أي قصد للإساءة إلى الملك، كما أنها لم تحدد عن أي ملك من الملوك تتحدث، فعددهم في العالم كبير. كما أننا لا نعرف هل تتحدث عن الملك كمنصب سياسي أم الملك كمنصب فخري كملك الجمال أو ملك كمال الأجسام. وفي الوقت الذي ينشغل فيه القضاء والإعلام بمتابعة المتورطين في تهمة الإخلال بالاحترام الواجب للملك، لم نسمع إلى حدود اليوم وكيلا للملك يتابع مسؤولا واحدا بتهمة الإخلال بالاحترام الواجب للوطن. مع أن الوطن هو أحد المقدسات الثلاثة التي ينص عليها الدستور في ديباجته. وعندما نطالع بلاغ وزارة الداخلية الذي تتحدث فيه عن مبلغ850 مليون سنتيم التي وفرتها الدولة لمساعدة منكوبي الفيضانات، ثم نستمع إلى رئيس مجلس العيون وهو يتحدث في ندوة بالدارالبيضاء عن تخصيص مبلغ 600 مليون، أي نصف المبلغ الذي رصدته الدولة لضحايا الفيضانات، لمهرجان «روافد أزوان»، نفهم المعنى الحقيقي للإخلال بالاحترام الواجب للوطن. عندما نرى كيف خصص السيد مزوار وزير المالية مبلغ 23 مليون درهم في قانون ماليته للسنة المقبلة لميزانية عشب الغولف الملكي بالرباط، الذي يأتي إليه علية القوم لدحرجة كراتهم نحو الحفر وتسلية أنفسهم، ونقارن بين هذا المبلغ السخي ومبلغ 580 مليون سنتيم التي خصصتها الدولة لإنقاذ عشرات الآلاف من المنكوبين ومواساة العشرات من القتلى والمفقودين داخل حفر حقيقية هذه المرة وليس حفر الغولف الضيقة، نفهم المعنى الحقيقي للإخلال بالاحترام الواجب للوطن. عندما نرى كيف يمنح عمدة الدارالبيضاء، محمد ساجد، مبلغ 580 مليون سنتيم للمخرج السينمائي نبيل عيوش لكي يبني قاعات سينمائية في الأحياء الشعبية بالدارالبيضاء، ونقارن بين هذا المبلغ الذي أخذه شخص واحد وبين مبلغ 850 مليون سنتيم التي ستوزع على الآلاف من المواطنين لإعادة بناء مساكنهم المدمرة في طنجة والناظور والراشيدية وميسور وغيرها من المناطق، نفهم المعنى الحقيقي للإخلال بالاحترام الواجب للوطن. عندما تتبرع دولة أجنبية كإسبانيا على صندوق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية هذا الأسبوع بمبلغ 200 مليار سنتيم (200 مليون أورو)، ونرى كيف «تتبرع» الدولة والحكومة المغربية على مواطنيها بهذا المبلغ التافه، الذي لا يساوي حتى ميزانية مهرجان سخيف من المهرجانات التي تعج بها المملكة، نفهم المعنى الحقيقي للإخلال بالاحترام الواجب للوطن. لكن للأسف قلة الاحترام هذه في حق الوطن لا تستحق من أية جهة قضائية متابعة المتورطين فيها. فالوطن من كثرة ما أهينت كرامته ومرغت في الوحل أصبح متعودا على السماح في حقه. ولذلك نجح كل هؤلاء الذين يهينونه ويقلون احترامهم عليه يوميا في جعل ثلاثة ملايين من أبنائه يغادرونه من أول فرصة أتيحت لهم. والبقية يحلم جزء كبير منها بهذا «الفرار الكبير» كل ليلة. وكما أننا لا نقبل أن يهان الملك أو يقلل أحدهم من الاحترام الواجب لشخصه، فإننا لا نرضى أيضا أن يهان الوطن ويهان أبناؤه باستصغار معاناتهم وازدراء أرواحهم وأرواح أبنائهم. أما الله تعالى فقادر أن يتولى من يهين اسم جلالته بعقابه أو رحمته التي وسعت كل شيء.