كل حروف كلامنا العربي الفصيح بكته بسواد دمع المداد.. كل الكتاب روعهم حدث وفاة «فارس القلم العربي» في الصحافة المغربية. كل قرائه الأوفياء لم يجدوا ما يخفف مصاب فقدانه إلى الأبد، غير حنين العودة إلي رصيد كتاباته الرصينة في السياسة والأدب.. مع أن مثل الكاتب الصحافي عبد الجبار السحيمي لا يموت، وإن نعت الأخبار وفاته بعد مرض طويل.. لا يموت من يترك وراءه ما يخلد اسمه في ذاكرة الزمن والأجيال.. لا يموت هذا الذي تحدى المستحيل بالممكن، خلال «سنوات الجمر»، فكتب عن جلاد غليظ القلب والعقل، هويته السياسية قمع إرادة الحياة الكريمة، بأفتك وسائل التعذيب، رغم أنه أسير جمال امرأة فاتنة تخونه بشرف!.. الذي يعيد قراءة رائعة قصص عبد الجبار السحيمي «الممكن من المستحيل» قد يوفق، هذه المرة، في تبسيط الغموض المعقد لمعادلة «شرف الخيانة»، عندما يكون مزاج الحب، غير متكافئ بين شريكين يجمعهما بيت العائلة أو بيت الوطن. اعتاد الزعيم الاستقلالي علال الفاسي أن يبدأ يومه السياسي بزيارته الصباحية المبكرة لجريدة «العلم».. ودائما يكون في انتظاره الثلاثي الصحافي المنسجم: عبد الجبار السحيمي، مصطفى الصباغ، محمد العربي المساري.. الأول ينقل إليه نبض الشارع المغربي، والثاني يطلعه على حال الأمة في الوطن العربي، والثالث يضعه في خضم التوتر المستمر بين أحزاب وزارة الداخلية وأحزاب المعارضة الوطنية.. ويتلقى علال الفاسي بحماس كبير اقتراح عبد الجبار السحيمي بتطوير جريدة «العلم» وإعداد ملحق أسبوعي خاص بأدباء المغرب وإبداعهم الشعري والقصصي ودراساتهم النقدية.. عبد الجبار السحيمي أول من دعا إلى تحرير الصحافة الوطنية من هيمنة الأحزاب.. وأول من رسّخ تقليد كتابة العمود الصحافي اليومي.. وأول من أسس شبكة المراسلين الصحافيين في مختلف مدن المغرب.. وأول من دشن صفحات خاصة بالرياضة والسينما والمسرح والإذاعة والتلفزة وفنون التشكيل.. وأول من شجع الأقلام الشابة على النشر، إلى أن صارت أسماء بارزة في الكتابات الصحافية والأدبية.. شخصيا، أقدر كثيرا روح التضامن والوفاء مع أصدقائه عندما أسهم عبد الجبار بكتاباته (سنة 1964) في جريدة «الموقف الأسبوعي» ومجلة «الموقف».. وكنا الصحافيين الستة، أنا وهو ومصطفى الصباغ وعبد اللطيف جبرو ومصطفى القرشاوي ومحمد العربي المساري، من الأقلام المعارضة بشدة لإعلان «حالة الاستثناء» في المغرب وكبْتِ أصوات حرية التعبير والديمقراطية، مع التنديد بالنظام البوليسي القمعي، في عهد الجنرالين أوفقير والدليمي.. لقد فارقنا عبد الجبار السحيمي بروحه الراجعة إلى خالقها.. ولكنه باق بنتاج قلمه في الصحف والمجلات والكتب وأقراص ندوات الفكر والثقافة.. إلى اللقاء قريبا، أيها الصديق الذي صمد طويلا، في معارك أزمة الوطن.