أذكر جيدا حين بدأ نظام الفيديو عام 1979م، كنت حينها في ألمانيا والثورة الإيرانية في أوجها. بدأ النظام واشترينا من وكالة جرونديك أشرطتها الثقيلة العريضة وفرحنا. ولكن لم يدم فرحنا طويلا فلم ينجح النظام. جاء نظام البيتا ماكس ففاز، وكان حجم الشريط صغيرا عمليا، ثم نافسه VHS وكان بحجم الكف أكبر من البيتاماكس، فطار وحلق ونسينا نظام الجرونديك. أتذكر تلك الأيام جيدا وكيف بدأ نظام الفيديوفيلم أيضا، وكان جهاز التصوير منفصلا عن الفيديو بوزن خمسة كيلوجرامات. وحاليا لم يبق نظام بيتا ماكس إلا في الذاكرة. ومازلت أحتفظ بأشرطة من نظام VHS وهي جيدة وتعمل ولو بعد مرور ربع قرن، ولعلها أفضل من نظام الأقراص الليزرية (CD) من جهة، حيث تعمل بدون مشاكل، ولكن ليس بنقاوة الأقراص الليزرية؛ كما لا ننسى فارق الحجم، حيث يمكن حمل قرصٍ واحدٍ عليه العديدُ من الأفلام بدل الشريط الثخين القديم فلا يستويان مثلا، ولذا هجر الناس النظام القديم إلى الجديد؛ فلم يعد يشتري الناس أجهزة تعمل فيها الأشرطة القديمة إلا ربما من أجل نقل التراث القديم من أفلام شتى، حيث بلغ عدد الأفلام الممثلة حتى اليوم حوالي مائة ألف فيلم ويزيد. قانون التاريخ يتقدم على ساقين من الحذف والإضافة؛ فتبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام. مازلت أتذكر عام 1979م فلا أنساه ونحن نسجل وقائع الثورة الإيرانية على أشرطة VHS والغرب يرجف من يقظة الشرق، ولم يكن يخطر على بالي ولو في أشد كوابيس المنامات أن تتحول الثورة الإيرانية إلى عدو للشعب السوري، وتساند نظاما قمعيا إجراميا دمويا، فقد انقلبت الثورة إلى دولة، ومن نظام حرية إلى وضع طائفي بغيض خارج إحداثيات التاريخ والجغرافيا، كل همها بناء صنم نووي ليس للاستخدام بل وحتى ليس للأكل مثل صنم عمر -رضي الله عنه- قبل إسلامه، فكان إذا جاع أكله! إنها السياسة الوسخة، فلنرجع إلى العلم النقي. عالم الديجتال كما ذكرنا يشبه من وجه قارة الأنتراكتيس، أي القطب الجنوبي؛ فهي أرض خلاف القطب الشمالي الذي هو جليد وصقيع من ماء. وعلى الرغم من انخفاض درجة الحرارة هناك دون الخمسين تحت الصفر، فإنها أرض عذراء نقية، بما فيها من بحيرات عذبة لم تتلوث منذ خمسين ألف عام. عالم الديجتال يختلف عن الأنتراكتيس، إنه اختراع وليس اكتشافا؛ فهي قارة مجهولة، ولكن مخترعيه عباقرة ضربوا ضربتهم وأبدعوا وغيروا العالم وملؤوا جيوبهم من مال وفير. أمازون يضع تحت تصرفك ما ترغب فيه، وآبل يعطيك التنقل الكامل بالمعلومة وتلقيها أينما كنت، وفيسبوك يوفر الشفافية الكاملة، أما جوجول فيدخلك إلى كهف معرفة لا تنضب معلوماته وتزداد كل يوم فهو بحر المعرفة الكلية. ولكن هناك مشكلة خطيرة بين هذه المؤسسات الرباعية، فهي تخوض صراعا ضاريا من أجل الاستحواذ على خريطة الديجتال، وقد نفاجأ بخامسة تضاف إلى هذا الرباعي فيضيف إلى ما نعرف الجديد والمفيد. المشكلة في هذه المؤسسات العملاقة أنها تعطي المزيد من الراحة لكل من يتعامل معها، ولكن من جهة خفية تسحب منه مزيدا من الحرية؛ ففيسبوك يخترقنا، وجوجول ائتمناه على ذاكرتنا. إنها مؤسسات تصطاد الأفراد بشبكات تحتبس فيها هذه الكائنات. إن فلسفة جوجول قد تحمل لونا من التناقض، فهي تعطي المعلومة بالمجان، ولكنها حصرية عليها ولها، فهل هي عين الصدق ونبع التقوى؟ تأمل، مثلا، ويكيبيديا ومن يدخل إليه. يقضي فيسبوك على الخصوصية وتقع كامل الشبكة في قبضة الشمولية. وتشتهي حكومات كثيرة أن تمتلك عن الأفراد ما تعرفه فيسبوك عن 800 مليون إنسان في المعمورة. لا غرابة ألا يثق الواحد بالبقية، والكل يتجسس على الآخر، والكل يسرق من الكل. إنها حكومات جديدة متشاكسة. ستيف جوبز، مؤسس آبل، أقسم وتوعد وهدد بأنه سينفق كل قرش يملكه من ثروته، التي تبلغ 40 مليار دولار، في سبيل تدمير الأندروئيد الذي طورته جوجول! قال الرجل إنه نسخة عن الآيفون! قال إذا تطلب الأمر أن نشن حربا نووية فأنا مستعد. إن المبالغات لا حد لها كما نرى. ولكن في نفس الوقت عمق الإحباط وهو يرى أجمل ما تعب عليه يلعب به الآخرون وجهده يسرقونه! ما هو الأندروئيد؟ رجل ذكي كان من صنعه من وادي السليكون اسمه أندرو روبين، ويمكن أن يعمل الجهاز على 300 نوع من الموبايلات خلاف الآيفون. ومستوى بيعه خرافي، فقد ظهر مخطط البيع صاعدا مثل طائرة تقلع من أرض مطار. يقول روبين سوف نجعل الآيفون من آبل من منسيات التاريخ! ميزة الأندروئيد أنه صالح لآلاف الاستخدامات في أجهزة القياس وحرارة الكون ورطوبة الجو ومقدار تلوث الهواء ويعطيك التفصيلات عن مشكلة الاحترار الكوني، وهو يجمعها من ملايين نقاط المعلومات المتفردة. أما فيسبوك، فقد نبعت الحاجة إليها من حاجة الناس إلى العلاقات الاجتماعية الحميمة أكثر من حاجتها إلى المعلومات والمعلومات فقط. الصراع بين جوجول وفيسبوك بلغ الذروة حول الأدمغة والخبرات، ولذا فقد تقدم جوجول إلى خبير مهم بنصف مليون دولار هبة مع زيادة مترقية في الراتب. مع هذا، فهؤلاء (الأدمغة) ينظرون إلى المستقبل، ومع دخول فيسبوك إلى مستوى البورصات فلسوف يحققون من الأرباح أكثر من عظيم الرواتب، فهم إلى حقول فيسبوك يزحفون. يسري (مثل) في أمريكا الشمالية أن أصحاب الرواتب الثابتة لن يصبحوا أغنياء قط مهما علا مقدار الراتب. أذكر جيدا من كندا ذلك الشاب المضارب (ميشكو) كيف حقق ثروة باللعب بهذا القمار، فخلال سنوات من المضاربات جمع ثروة ارتاح على ظهرها ولا أعرف هل أفلس أم زاد؟ إنها أمريكا وسحرها وساحروها، أليس كذلك؟ حاولت جوجول الرد على فيسبوك، وقالت: حسنا، هل تريدون أكثر من المعلومات من حميمية الاتصالات، فلنخترع شيئا جديدا فيه ميزة المعلومة والاتصال، وهكذا اخترعت جوجول ما سمي بجوجول بلوس. يعتبر آميت سينجهال من الأدمغة الخمسين في أمريكا الشمالية خلف نظام المعلوماتية، هو من طور القفزة الجديدة لجوجول، وهو يرى أن المعلومة يجب ألا تكون قطعة مفردة بل لها بعد شخصي أيضا، وهذا يعني ثورة عالمية. بالمقابل، يرى جون كالاس، وهو رائد في تطوير نظام آبل، أن من يستفيد من التطوير والمعلومات يعني بالنسبة إلى المؤسسات أرضا فلاحية وزراعة تنتج رؤوس سلطة، والحصاد هو المهم تماما كما يفعل أصحاب المحميات في بيع الخضر. إلى أين وصلت الأمور؟ يعتبر ستيف جوبز نموذج الحلم الأمريكي، شخص واحد يبني مؤسسة تضم أكثر من أربعين ألف موظف وخبير وبرأسمال يقترب من حافة 400 مليار دولار. مشكلة آبل أن مؤسسها فارق الحياة بسرعة. وفي اليوم 14 من تكريمه، اجتمع عمال وموظفو آبل ليتحدث إليهم الخليفة الجديد تيم كوك (الطباخ)، فقال بصوت خاشع: لا تكونوا مثل والت ديزني الذي انتهت شركته مع موته، ليتابع كل منكم ما يستطيع فعله، ولكن القول سهل، أليس كذلك؟! كان مشروع ستيف جوبز الأخير هو دخول عالم التلفزيون، فبعد نقل المعلومة لتصبح متحركة مع جهاز الآيفون، يحاول أن يقوم بنفس الحركة فترى بجهازه ما تراه في منزلك من التلفزيون. كلام الرجل فيه قدر من المصداقية، فهناك العديد من المؤسسات التي تحاول كسر الهيمنة الأمريكية بوجود أو موت مؤسسيها مثل: ميكروسوفت وياهو ونيتسكيب وماي سبيس. الخلاصة التي تنتهي إليها مجلة «در شبيجل» الألمانية أن آبل استنفدت إمكانياتها، ومع موت مؤسسها لن تصمد أمام زحف فيسبوك، وقد قدمت أفضل ما عندها، وجميل لها أن تحافظ على مكتسباتها أمام تنافس سمك القرش العالمي. يبدو أن من سوف يسيطر هو جمهورية علامة جبل السكر (مارك شوكر بيرج). يبدو أن المستقبل سيكون لفيسبوك، فقد تجنبت أغلاط شركات مثل AOL التي وقعت في أغلاط الجمهوريات الاشتراكية التي تضخمت فيها البيروقراطية إلى درجة الانهيار، كما حدث مع جمهورية ألمانيا الديمقراطية الاشتراكية فانهارت مع هونيكر. إنها لحظات مخيفة لانهيار الأنظمة كما حصل مع الرحيل الجماعي من جمهورية ألمانياالشرقية. حاليا، تقوم فيسبوك على سياسة حكيمة من عملة خاصة ونظام ضريبي وتشجيع مغرٍ للعاملين وأعضاء وصل عددهم إلى 800 مليون عضو بشفافية خطيرة وقواعد مرنة للتعامل، وما ينتظر هذه المؤسسة هو غد من نزوح جماعي من باقي المؤسسات إليها! هل هذا الكلام جدي وصحيح؟ تعلمنا من القرآن قوله: «قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى».