تستطيع الحياة الجنسية البشرية أن تتخذ اتجاهات غير عادية وتسلك طرقا غريبة وشاذة وتطأ مواطن لا تخطر على بال عاقل وتحير لب عالم... ولكنْ، لسبب أو لآخر، قد لا يستيقظ الجنس من مرقده ولا يتحرك في مهده ولا يعبّر عن نفسه ويطبق الصمت على فمه إلى الأبد، ويضطر صاحبه للعيش وحيدا فريدا دون شريك مدى الحياة.. ويسمى هؤلاء في العلوم الجنسية «اللا جنسانيين». وقد تقرر هذا المفهوم حديثا، في عام 1970، ولا ينطبق هذا الاسم على من يسلك سبيل العفة كمنهج في الحياة، في انتظار الشريك الحلال، حسب معتقده، ويضم عندنا طوابير كبيرة من اللواتي فاتهن قطار الزواج. كما يستثنى منه الذين يكتفون بالجنس مع ذواتهم، عن طريق الاستثارة الذاتية، ويخافون أو يحذرون من التواصل الجنسي مع الآخر. في دراسة للعالم ويلينس (1994) قدر نسبة اللا جنسانيين بواحد في المائة في المجتمعات الغربية، أما الأخصائي النفساسي شاطون (2004) فقد قسمهم إلى أنواع ثلاثة: المجموعة الأولى: تضم الانطوائيين المغالين والانفصاميين المنعزلين، لم تتطور لديهم الأحاسيس الجنسية وتجمدت في مراحل بدائية منذ الطفولة المبكرة. المجموعة الثانية: ينضوي تحتها فريق تعرض لهزات نفسية عنيفة، فتوقف الجنس في استثارات متخلفة في السلم الشبقي ولم يرتق إلى درجة الوصول إلى علاقة جنسية كاملة مع الآخر. المجموعة الثالثة: وهم الانصهاريون، الذين يكتفون بالحب والعواطف ويعيشون مع شركائهم كالإخوة ولا يجدون في أنفسهم أي رغبة جنسية تشدهم إلى الآخر. يستطيع اللا جنسانيون أن يعيشوا، أو بالأحرى، أن يستمروا على قيد الحياة، دون اللجوء إلى البحث عن العلاج إلا حين يطرح مشكل الزواج أو الرغبة في الأولاد. أردت بهذا التمهيد أن أعرض عليكم حالة واقعية تابعتُها لمدة ليست بالقصيرة، صاحبها اسمه «حميد»، في أولى زياراته، شد انتباهي التناقضُ الصارخ بين اللغة المنطوقة التي يتحدث بها ولغة الإيماء والإشارة التي يرسلها، فهو شاب في الخامسة والعشرين، مهندس إعلاميات، يشتغل في مؤسسة دولية كبيرة لها فروع في كبريات المدن، شعره المصفف بشيء من الفوضى يلمع ب«الجيلاتين»، الذي يضفي عليه شكلا شبه مبلل، ذقن محلوق باتقان، ملابس من ماركات عالمية تغطي جسما مشدود العضلات ورياضي الحركات، قال في شرود: «أنا لا أعرف ما هو الجنس، ولا أحس بأي رغبة جنسية، وعائلتي يلحون علي بالزواج.. كلما حاولتُ أن أفتش عن ذرة من شهوة في كياني أو أفتح كتاب المتعة في جسدي.. أحس بصداع عنيف يلفّ رأسي، حتى يغشى بصري ويفجر آذاني.. وينتابني ضيق خانق يجتاح خاطري كله... ساعدني يا دكتور لأحيي الجنس الميت في داخلي».. لم يُضَوِّعني ما سمعته منه في المرة الأولى، ولم أحمل كلامه محمل الجد، وعلقته على بعض المبالغات التي ألِفت أن يأتي بها الذين يضطرون إلى التصنع لشد انتباهك واستجلاب التعاطف للحصول على أقصى ما يمكن من الاهتمام والرعاية والعلاج. لكن تكرار زيارته -جلسة تلو الأخرى- جعلني أستيقن أن الأمر جد لا دخل للهزل فيه. حاولت اقتراح عدة تقنيات لإحياء الرغبة وخلخلة الركود الشبقي الذي أحكم استقراره لسنين طويلة في غياهب النفس العميقة... كنت، كل مرة، أصطدم بجدار منيع من مقاومة التغيير، فاهتديتُ إلى تغيير الإستراتيجية وأدليت دلوي عميقا في ماضيه علني أقف على لغز هذه اللا جنسانية، واستفدت من العلاقة «طبيب -مريض»، التي توطدت وترسخت وهيأت جوا صحيا للبوح الجريء والفضفضة الصريحة، بكل ما يجر معهما من آلام وأشجان، مما اضطرني إلى التدخل، مستخدما بعض مهارات التواصل لتصريف الضغوط وتنفيس الاحتقان، الذي يعيق الاستمرار في النبش في العقل الباطن، حتى حصل «الوضع» بعد مخاض عسير ذات جلسة، فتحررت العقدة ونطق بسره: «اكتشفت يا دكتور، منذ سنين، أنني لست ابنا شرعيا لمن أحمل اسمهم العائلي... أنا لقيط... وهذا سري الذي لم أحدث به بشرا».. انفجر في بكاء ونحيب شديدين، فأجّلتُ الحديث في الموضوع إلى جلسة قادمة. أمامي كانت الصورة قد اتضحت. فاللا جنسانية وسيلة دفاعية نفسية تحمي صاحبها من الانهيار... ففي قناعته، قد جاءت ولادته نتيجة لعلاقة جنسية حرام، غير محسوبة النتائج والعواقب... ولنبذ هذه الزلة العظيمة، التي سببت له عذابا دفينا.. اعتمد عقله اللا واعي إلغاء هذه الشهوة في نفسه بإطلاق. واصلَ، في اللقاء الموالي التخلص من عقده، عقدة عقدة، بعد أن انطلق لسانه وتحرر من كوابحه، وذلك بطرح أسئلة واستفهامات، وعلى وجهه شحوب واكتئاب: من أنا؟ لماذا أنا خطأ في الحياة؟ أليس من حقي أن أملك أبوين وأعيش في كنفهما؟ أنا ابن زنا.. ما ذنبي في ذلك؟ لماذا عليّ تحمُّل نظرات الذين يعرفون حقيقتي، وهي تنزل على روحي كسياط حارقة!.. كان يصرخ أحيانا ويعلو صوته وهو يعمم التهمة على الجميع ويحمّل مسؤولية الزنا للفاعل، وللساكت، وللمروج، وللداعم، وللممول، وللمسهل، للمجتمع بأكمله.. خلصتُ يومها، وأنا أنصت إليه، إلى حقيقة مرة: جريمة الزنا ليست جريمة عادية عن طريق متعة جنسية ولذة خاصة، بل هي أفظع وأشنع. إن لم يوجد في العالم كله إلا ضحية واحدة ك«حميد» لكفى بها في نفور الفطرة واشمئزاز العقل من الفواحش. حميد، حرمناه من أقدس ما في الوجود، وهو الإحساس الطبيعي بالإنسانية، حرمان كهذا سيشكل أرَقاً نفسيا وفكريا يصاحبه عبر الزمن ويستبيح إعداما جنسيا وعاطفيا يزداد معه سوءا على سوءٍ وانهيارا يتلوه انهيار. في الجلسات التالية، سارت المور بوتيرة متسارعة، حيث بدأ حميد في التعافي والتحسن بشكل أدهشني شخصيا... حتى فاجأني يوما بدعوة عبر الهاتف لحضور زفافه، وبعدها بأشهر، برسالة شكر وامتنان، يصف فيها «فتوحاته» الجنسية واستمتاعه الشهي بنعمة كان مغبونا فيها لسنين طويلة.. فأجبته إن «الجنس نهر عسل لذيذ ولكنه جارف وخطير لمن لا يحسن السباحة. فأوغلْ فيه برفق.. لا أتمنى أن أستقبلك من جديد لأعالجك من الإدمان على الجنس!»..