يبدو أنني هذه المرة قررت الابتعاد عن المواضيع السياسية مؤقتا طبعا، لأخوض غمار موضوع اجتماعي عاطفي يؤرق الكثير من القراء الذين سألوني وبإلحاح عبر بريدي الإلكتروني عن العلاقة بين الحب والجنس، وما مدى أثرها في فشل الكثير من الزيجات؟ وهل الجنس هو سيد الموقف، بحيث يمكن أن يمطر المتزوجين حبا، أو يمطرهم مشاكل لا حدود لها إلى درجة، يمكن أن تتحول معها مثاليات الحب إلى ضرب من الخيال ويصبح الجب نفسه في خبر كان؟. كما هو معلوم ومنذ خلق الله الإنسان، أودع فيه عواطف بشرية فطرية كالحب المتنوع الوجوه والمعاني، بسبب العوامل النفسية والمادية المؤثرة فيه، واعتقد أن الجنس هو سر نجاح عاطفة الحب، أو فشلها في أية علاقة على وجه الأرض، باستثناء بعض الحالات الشاذة، وذلك لأن الجنس مثل الطعام والشراب وكافة الغرائز والحاجات الفسيولوجية لدى الإنسان والحيوان على السواء. إلا أن الإنسان طوره وحسنه وزينه ليتميز في ممارسته عن باقي الحيوانات، فلم يعد عنده وسيلة التناسل لحفظ النوع فقط، بل أصبح غاية فى حد ذاته، أي للمتعة الصرفة، وأصبح أيضا صناعة وفنا، وتنوعت طرقه وأوضاعه، كما هو حال المأكل والمشرب عند الإنسان المتحضر، التي لم تعد لمجرد سد الجوع وإرواء الظمأ حفاظا على الحياة والبقاء وإطالة العمر، وأصبحت للمتعة والرشاقة، فتنوعت واختلفت، وكثرت مدارسها ومطابخها، من المطبخ المغربي الأصيل "بطواجنيه" وتوابلها الشديدة التنويع، والفرنسي الراقي الرومانسي، والإيطالي وتميزه بأطباق المعكرونة وصلصة البشاميل والجبنة والدجاج، والبيتزا الشهية، والأنجليزي ببطاطيسه وخضراواته المختلفة، والأمريكي بسندويتشاته، والمكسيكي بمداق "التشيليز" الفلفل الأحمر الحار المعروف، والتركي، والصيني، وغيرها كثير جدا يصعب حصره. واخترعت المشروبات وعصائر الفواكه الباردة للمتعة، والساخنة العشبية للتداوي، والقهوة والشاي، لترطيب المزاج. لقد اختلف الناس في مفهوم الجنس، فاعتبره البعض تعبيرا حقيقيا عن الحب، واعتبره بعضهم واجبا من الطبيعي ممارسته، لأنه للمتعة وليس للإنجاب فقط، وأسعد زواج وأفضله ربما هو زواج بلا إنجاب، وبلا مسؤوليات أطفال ولا إنكار للذات، ولا ضياع للمتعة، ولا موت للحب، وحتى إذا جاء الأطفال، فأفضل مراحل الزواج وأسعدها هي مرحلة ما بعد أداء رسالة الإنجاب وواجب رعاية الأطفال وإعدادهم لأداء رسالتهم في الحياة، التي يتفرغ فيها الزوجان للحياة الجنسية الحقة التي لا يكون فيها الجنس مجرد لحظة عابرة، أو وسيلة لا غاية، بل يكون حياة متواصلة، ومتعة مستمرة، وغاية لا وسيلة، يستمتع خلالها الزوجان بالحب والجنس ومباهج الحياة كلها، وكأنهما عاشقان في فترة خطوبة طويلة لا تنتهي، أو متساكنان مساكنة أبدية، كما هو حال المتزوجين الغربيين الذين يؤمنون إيمانا راسخاً بأن ممارسة الجنس أمر ضروري فطري تدعو إليه الحاجة البشرية كالطعام والماء، وأنه غذاء الحب الأكبر ودواؤه المجدد والمكرر له، ودليل ديموم حميميته مهما كان السن، كلما انتهى بدأت الحاجة إليه من جديد، ليس كغاية ولا نهاية، بل كبداية تجعل الرغبة الجنسية العارمة تتعادل وتتوافق وتتوازن مع شدة الحب وشدة الرغبة في التلاقي، ويكون بذلك تعبيرا عن اتساع دائرة الخيال وانطلاق الانجذاب والرغبة في التلاصق والالتحام والذوبان إلى درجة الشبق الذي لا ينطفئ دون حواجز، حتى عند الشيوخ المتحابين، لأنه علاقة جسدية روحية ممتعة لأقصى ما تكون درجات المتعة (في حالة ممارستها بشكل صحيح) التي لا تتوقف عند حدود الجسد، وإنما لها امتدادات عاطفية وإنسانية وروحية حميمة هائلة، لا يكون الجنس فيها تحقيقاً لرغبة جنسية حادة وملحة، بقدر ما يكون وسيلة أو أسلوبا للتعبير عن شكل من أشكال الاتصال والتواصل الذي يشكل جزء كبيرا من نشوة الحب التي تهز الأجساد مثلما تهز الأرواح، ونحمد الله أن الجنس ليس الحب كله، لأنه لو كان كذلك لوقعت الكارثة، ولانتهى الحب بانتهاء الجنس، وتفقد العلاقة الزوجية كل أبعادها الوجدانية والروحية والإنسانية، لأن لعلاقة الحب بالجنس والتأثير المتبادل بينهما، علاقة مركبة ذات تأثير متشابك ومعقد، يسعد بسحرها المحبون أيما سعادة بعيدا عن القيود والوصايا، ويشقى غيرهم من عير المحبين الذين يكون الجنس عندهم عملية ميكانيكية بحتة وسريعة، من الممكن أن يكون مثيراً، لكن لا يكون في الغالب ممتعاً، بحيث يمكن أن يرضى الحاجة البيولوجية ولكنه لا يرضي الحاجة النفسية، وكأن طرفي العلاقة هنا، يؤديان واجباً مدرسياً بلا حب أو رغبة، تماما كما يتعامل التلاميذ مع فروض معلمة تأمرهم ب"اغسل يديك قبل الأكل وبعده" فيطبقون تعليماتها بحذافيرها. وهذا ما دفع ب"فرويد" للتفكير في "أن لا شيء اسمه الحب وإنما هو جنس في جنس"، ولمحاولة مسح تاريخ البشرية من شيء اسمه الحب، على اعتبار أنه وهم، أو وسيلة للوصول إلى الجنس فقط، وأن كل الغزل والأشعار والفنون ما هي إلا مقدمات للجنس، أي أن الجنس هو الأصل، و الحب هو الفرع، والتوقف عن الجنس فيه إيذاء نفسي للزوجين معا، وأن العلاقة الجنسية بين الزوجين أمر له خطره وأثره على الحياة الزوجية، قد يؤدي عدم الاهتمام به، أو وضعه في غير موضعه، إلى تكدير هذه الحياة، وإصابتها بالاضطراب والتعاسة، وغالبا ما يفضي تراكم الأخطاء فيه إلى تدمير الحياة الزوجية والإتيان عليها من قواعدها، وقد يقويها ويمتنها بما ينفخ في أوصالها من عواطف المودة المحبة، إذا استثمر الجنس ومورس بعقلانية وأشبع الرغبات الفطرية الإنسانية. كما كان الحال قبل اليوم، مع الجدات اللواتي كن يتزوجن بلا حب وبلا تعارف، حيث يزف ذكر وأنثى إلى بعضهما دون أن يعرف أحدهما الأخر، أو يقابله في يوم من الأيام، وحتى دون أن ينظروا إلى صور بعضهم البعض، وفي العتمة تحدث العلاقة الجنسية الأولى بينهما، وتنفث النفوس ما في جعبتها من رغبة وهيام بدون مقدمات رومانسية وبدون كلمات الحب والغزل الطللية، بل اعتماد على علاقة جنسية كاملة المقومات، ملبية لرغبة الطرفين اللذين يخرجان منها راضيين الرضا الذي يخلق بينهما كما هائلا من الحب يفوق كل مقدار ما كان يحدث منه مع عشاق و أزواج هذا العصر، و بعد وقت وجيز، نجد هذا الزواج المفعم بالعلاقات الجنسية الأكثر شمولية، قد حقق نجاحا باهرا، وظهرت على محيا طرفيه معالم الحب الحقيقي، وبدأ الغرام الفعلي، بلا أدنى منغصات، باستثناء تلك التي يعرفها كل الزيجات حتى التي بنيت على الحب القبلي منها، وكل ذلك بفضل العلاقة الجنسية المتوافقة، التي تظن بعض العقليات العربية السادرة في واقعيتها الخرافية، وحقائق الجنس الوهمية، أن الإسلام أهمل هذه الناحية برغم أهميتها، وتوهم آخرون-المؤمنون المتشددون- أن الدين أسمى وأطهر من أن يتدخل في هذه الناحية من حياة الإنسان بالتربية والتوجيه، أو بالتشريع والتنظيم. بينما نجد أن الإسلام، بخلاف نظرة بعض الأديان إلى الجنس "على أنه قذارة وهبوط حيواني "، لم يغفل هذا الجانب الحساس من حياة الإنسان، وحياة الأسرة، واعترف بفطرية الدافع الجنسي وأصالته، وأدان الاتجاهات المتطرفة التي تصادره، أو تعتبره قذارة وتلوثا، ومنع قطع الشهوة الجنسية مؤقتا باعتزال النساء وترك الزواج، ونهائيا بالإخصاء، كما جاء في الحديث الشريف: "أنا أعلمُكم بالله وأخشاكم له، ولكني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني". كما أقر بحق كل من الزوجين في الاستجابة لهذا الدافع، ورغب في العمل الجنسي إلى حد اعتباره عبادة وقربة إلى الله تعالى، كما في الحديث الصحيح: "وفي بضع أحدكم (أي فرجه) صدقة. قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال: نعم . أليس إذا وضعها في حرام كان عليه وزر، كذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر، أتحتسبون الشر ولا تحتسبون الخير ؟ " رواه مسلم، وذلك لأن الجنس لدى المحبين هو نوع من التواصل الوجداني والجسدي لا يستطيعون الانقطاع عنه لمدة طويلة، وحبه لا يعتبر عهرا بذليل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعهده ويحبه، كما جاء ذلك في الحديث الشريف: "..حبب إلي من دنياكم النساء والطيب".. وفي كتاب الزهد للإمام أحمد في هذا الحديث زيادة لطيفة وهي: " أصبر عن الطعام والشراب ولا أصبر عنهن". ولذلك فإن الشريعة والقانون منعتا التوقف عن ممارسة الجنس بين الزوج أو الزوجة لمدة تزيد عن أربعة أشهر كحد أقصى وبعدها إما عودة لممارسة الجنس أو فراق بالطلاق، لأن الكثير من المشاكل التي يواجهها الأزواج، من انحراف المرأة أو الرجل ووقوعهما في الزنا أو الخيانة الزوجية بكل أشكالها، ترجع بالأساس إلى العلاقة الجنسية غير السليمة، أو من انقطاعها بامتناع الزوج أو الزوجة عن المعاشرة الزوجية أو عدم حصول الإشباع أثناء الممارسة، وربما لا أبالغ إذا قلت، أنه نادرا ما تنعدم الرغبة الجنسية تماما لدى الكثيرين، لما تؤدي إليه من حالة الإشباع والرضا وجو البهجة السامية، ويحمي الزوجين المحبين الواعين، من مخاوف الكبر والشيخوخة، ويشعرهما بأن تواصلهما الودود المحب، سيستمر حتى اللحظات الأخيرة من العمر، وربما إلى ما بعد الموت في جنة الله، حيث سيلتقيان حتما في العالم الآخر ليواصلا ما بدآه من علاقة حميمة في هذه الدنيا، كما يعتقد بذلك المحبون.. الغربيون