نظلم أنفسنا كثيرا إذا ما حملنا الثورات العربية المسؤولية عن الاضطرابات والأزمات التي تلاحقت على أراضيها، لأنها كانت كاشفة عنها وليست منشئة لها. هذه الأيام، تعددت الكتابات في بعض الصحف العربية التي تبارت في هجاء الثورات التي توالت في المنطقة، بحجة أنها أجهضت الحلم ولم تحققه، وأفسدت بأكثر مما أصلحت. ويجد أصحاب تلك الكتابات في ما تشهده ليبيا، وما حدث في مصر واليمن، وما تعاني منه سوريا، ذريعة للإيحاء بأن الثورات كانت شرا أصاب البلاد وروع العباد. ليس سرا أن بعض تلك الدول لم ترحب بالثورات العربية منذ اللحظات الأولى لانطلاقها، ومنها ما منع نشر أخبارها في وسائل الإعلام المحلية، ولم يسمح إلا بهجائها والتنديد بالممارسات التي تجري على أرضها. ولم يقف الأمر عند حدود الحظر الإعلامي، وإنما ذهبت بعض الدول إلى ما هو أبعد، حين مارست نفوذها وطلبت من جيرانها عدم تقديم أي عون للدولة التي قامت فيها الثورات، عقابا لأنظمتها المستجدة وللشعوب التي أيدتها. إلى جانب أنها لجأت إلى التضييق على مواطني تلك الدول وعدم الترحيب بهم على أراضيها. الخلاصة أن هجاء الثورات والتحامل عليها لا علاقة له بأية أخطاء أو أزمات حدثت، وإنما كان استنكارا لمبدأ قيام الثورات من الأساس. وليس معروفا بالضبط ما إذا كان ذلك لتأمين الذات وقطع الطريق على أي حراك أو أصداء في الداخل، أو كان سببه علاقات ومصالح خاصة ربطت بين جهات نافذة في تلك الدول وبين أركان الأنظمة التي سقطت، لكن الثابت أن الأخطاء التي وقعت والأزمات التي تعددت، وفرت للهجائين حجة قوية استندوا إليها في استمرار النقد والمعايرة، وتوجيه رسالة التحذير والتخويف من أي انتفاضة تقوم بها الشعوب. يضربون المثل بليبيا التي أصبح الجميع فيها يحملون السلاح، ويذودون عن قبائلهم وما وضعوا أيديهم عليه من مؤسسات ومكتسبات أثناء الثورة، وكيف أن الاشتباكات تعددت بين الثوار المسلحين، فسقط فيها قتلى وجرحى، واستيقظت حزازات ومرارات قديمة. حتى طرابلس العاصمة صارت موزعة على كتائب الثوار، فأهل زنتان يسيطرون على المطار وأهل مصراته يتمترسون في مبنى رئاسة الوزراء. وإلى جانب ذلك، فلكل حي مجلس عسكري. ولم يقف الأمر عند ذلك الحد، وإنما تعرضت البلاد لاحتمال التقسيم إلى ثلاثة أقاليم أو ولايات، وكانت البداية في بنغازي التي شكلت مجلسا انتقاليا لإدارتها مستقلا عن ذلك الذي قام وتشكل بعد الثورة. هذه الصورة التي تواترت الإشارة إليها في كتابات الناقدين والهجائين كانت أقرب إلى الصحة، ولكن الخطأ الذي وقع فيه أصحاب تلك الكتابات أنهم نسبوا كل تلك النوازل إلى الثورة دون أي ذكر لمسؤولية النظام السابق، ذلك أنهم ينسون أن ليبيا خضعت طوال 42 عاما لحكم قاسٍ وشرير أعاد البلد إلى عصر ما قبل الدولة. فالقذافي اعتبر نفسه وأسرته هم الدولة، فلا حكومة ولا إدارة أو قضاء أو تعليم أو صحة، ولا حتى جيش، لأن أفراده كانوا موزعين على كتائب باسم أولاده. لم تكن ليبيا وطنا لليبيين ولكنها كانت ضيعة أو عزبة للقذافي. وحين احتكر الرجل وأولاده السلطة والثروة والقرار والتلفزيون، أدرك كثيرون أنهم صاروا غرباء في بلدهم ولم يعد لهم مكان في الوطن. وكان طبيعيا في هذه الحالة أن يحتمي الليبي بقبيلته أو الجهة التي ينتمي إليها، وأن يحتمي بسلاحه أيضا. هذا إذا قرر البقاء ولم يهاجر شأنه في ذلك شأن آخرين بحثوا عن أوطان أخرى يستظلون بها وملاذ آمن يركنون إليه. إذا أضفت إلى ذلك أجواء القمع التي فرضتها أجهزة القذافي الأمنية، واحتقار الرجل لشعبه وازدراءه لهم وإخضاع حياتهم لتقلب أمزجته، فسوف تجد أن تلك البيئة لا يمكن أن تفرز سلوكا اجتماعيا سويّا، وإنما من الطبيعي والضروري أن تنتج مجتمعا مشوّها تستغرق عملية ترميمه سنوات وسنوات. بالتالي، فإن التقييم المنصف لما تشهده ليبيا من اضطرابات أو صراعات ينبغي أن يبدأ بمحاكمة النظام السابق أو على الأقل الادعاء عليه في المسؤولية عن تلك التداعيات. حين أغلق باب الترشح لرئاسة الجمهورية في مصر، وأعلنت القائمة الرسمية للمرشحين ال23، ثم استعرضت الصحف مسيرة وخلفيات كل مرشح، اكتشفت أن ثمة أسماء مجهولة أسمع بها لأول مرة، ووجدت أن بين المرشحين أناسا لا علاقة لهم بالسياسة، وبعضهم مجرد هواة يتعذر أخذهم على محمل الجد، كما أن بينهم امتدادات وأصداء للنظام الذي ثار عليه الشعب. أما المستثنون من تلك التصنيفات فقد كانوا شذوذا لا يقاس عليه. حينذاك، قلت إن تلك الواجهة لا تمثل مصر العفية ولا حلم الثورة، ولكنها تعكس مصر العليلة والمشوهة التي تحاول الآن التماسك لكي تقف على قدميها. إن شئت فقل إن القائمة خلت من القامات والرموز التي عركتها الممارسة السياسية وحظيت بالإجماع الوطني. بكلام آخر، فإن قائمة المرشحين تشهد بأننا صرنا نفتقد الزعامات من الطراز الأول أو حتى الثاني، وأن الأغلبية لها احترامها لا ريب إلا أن منها من يصعب تصنيفه ضمن الزعامات، ومنها من هو من قبيل الفرز الثالث أو الرابع أو العاشر إذا استخدمنا لغة السوق، ومنها أناس ليسوا فوق الشبهة السياسية. حين يفكر المرء من هذه الزاوية فقد يلتمس العذر للمرشحين. حين ينتبه إلى أن البيئة السياسية التي سادت في مصر طوال الأربعين سنة الماضية لم تكن تسمح بظهور أي قيادات أو زعامات يمكن المراهنة عليها في المستقبل، فلا أحزاب سياسية ذات قيمة ولا انتخابات حقيقية برلمانية أو حتى نقابية، أعني أن الحياة السياسية تعرضت لموجات من القمع المتواصل التي أدت إلى تفجير الواقع المصري وتجفيف منابع الحيوية والعافية فيه. إذ حين يصبح الحزب واحدا والأعوان والكهنة لا يتغيرون والفرعون جاثم على صدر المجتمع حتى آخر نفس (كما قال ذات مرة)، فمن أين إذن يمكن أن تخرج قيادة بديلة؟! إذا وسعنا زاوية النظر وطالعنا المشهد من بقية زواياه فسوف تستوقفنا عثرات المجلس العسكري وعراك الأحزاب على الحظوظ والنفوذ، إضافة إلى فشلها في تحقيق التوافق في ما بينها، سنلحظ أيضا تجاذب الائتلافات وفوضى المليونيات، وتصعيد الإضرابات والاعتصامات، واحتماء الحكومة بالمجلس العسكري في معاندة البرلمان، إلى غير ذلك من مظاهر غياب الثقافة الديمقراطية والتفلت والتمزق السياسي التي يراها البعض وجها قبيحا للثورة، في حين أنها من مخلفات العلل والمرارات والمظالم التي أصابت المجتمع في ظل النظام السابق. لا أستطيع أن أسقط من الحسبان العامل الخارجي، وحرص جهات ذات مصلحة على تعكير الأجواء وتكثيف العقبات لتنفير الناس من الثورة وإقناعهم بأنها كانت وبالا عليهم، وأن الوضع السابق كان أفضل لهم؛ وهو عنصر لن أتوقف عنده طويلا، ليس فقط لأن هؤلاء يؤدون عملهم ويتحرون مصالحهم، ولكن أيضا لأن قوة الداخل وعافيته هي أكثر ما يهمنا، فضلا عن كونها كفيلة بإفساد تلك المخططات، ناهيك عن كون دور العامل الخارجي يطل من قبيل الافتراضات التي لا تتوفر لدينا الآن أدلة إثباتها في الوقت الراهن على الأقل. لكي نفهم خلفية وجذور التشوهات التي ظهرت أعراضها على مجتمعاتنا بعد الثورة، أذكِّر بالمقولة الشائعة لدى أهل السياسة التي تنبه إلى أن كل نظام يفرز المعارضة التي يستحقها، فالنظام المتطرف في قمعه وفساده يرتب سلوكا مجتمعيا له ذات الصفات، والنظام الديمقراطي يشيع ثقافة التسامح والتداول السلمي واحترام الحقوق والواجبات. ومن يرجع إلى كتاب «طبائع الاستبداد» لمؤلفه عبد الرحمن الكواكبي (عاش في أواخر القرن التاسع عشر)، يلاحظ أن الرجل تحدث عن تأثير الاستبداد على كل نواحي الحياة في المجتمع، من الدين والعلم والمال إلى الأخلاق والتربية والمجد والترقي؛ بما يعني أنه يحدث انقلابا في القيم السائدة في المجتمع، فيسلم الناس إلى الانحطاط «ويحول ميلها الطبيعي من طلب الترقي إلى طلب التسفل، بحيث لو دفعت إلى الرفعة لأبت وتألمت كما يتألم الأجهر من النور». وإذا كان ذلك دأب الاستبداد وطبعه فلك أن تتصور تأثيره على تشويه المجتمع في حال استمراره طوال ثلاثين سنة. في ذات الوقت، تعلِّمُنا خبرات عديدة وتجارب تاريخية لا حصر لها أن الاستبداد لا يدمر الحاضر فحسب لكنه يدمر المستقبل أيضا، أعني أنه حين يسعى إلى التفرد بالسلطة وإسكات صوت المجتمع فإنه يضعف مؤسسات الدولة ويزور الانتخابات ويكبل المجتمع المدني من أحزاب ونقابات واتحادات، الأمر الذي ينتهي بتجريف المجتمع وإصابته بالإعاقة السياسية. وفي بيئة من ذلك القبيل تستأصل البدائل أولا بأول، ولا يتاح لأي نبتة صحية أن تنمو. وكما يحدث في أي صحراء فإن تربة بذلك الجفاف لا ينمو فيها سوى الشوك والصبار، بالتالي فحين يسقط النظام فإنه لا يخلف بعده سوى أنقاض الكيانات التي عمد إلى تقويضها طوال الوقت، وإلى جانبها حقول الشوك والصبار التي وحدها أتيح لها أن تنمو وتزدهر. هذه الخلفية تسوغ لنا أن نقول إن الصور التي تتتابع أمام أعيننا طول العام الذي مر من عمر الثورة هي لمخلفات وإفرازات النظام الذي سقط ولم يتح للوضع الديمقراطي الذي ننشده أن يرسي قوائمه، أو أن يعالج بيئة التصحر السياسي المخيمة. إن شئت فقل إننا بإزاء تركة عصر القهر والانكسار التي هي من الثقل بحيث تحتاج إزالة آثارها إلى الكثير من الوقت والجهد. لقد كان يقال إن بعض سلاطين العثمانيين كانوا يبادرون إلى قتل أي طفل يولد في أسرهم يظنون أنه سيطرح بديلا لهم في المستقبل. والمستبدون يفعلون نفس الشيء باتباع سياسة الاستئصال والتجريف التي يظنون أنها ستجعل من وجودهم ضرورة ومن استمرارهم خيارا وحيدا، الأمر الذي تترتب عنه إصابة حاضرهم السياسي بالعجز والعقم الذي يمتد أثره إلى المستقبل أيضا. وأزعم أننا في مصر نمر بهذه المرحلة، ذلك لأن التشوهات التي تتراءى لنا ليست سوى بعض تجليات سياسة الاستئصال والتجريف التي تعرض لها المجتمع على مدى ثلاثين أو أربعين عاما. ليس لدي أي دفاع عن الحاصل الآن أو تبرير له، لكني تمنيت أن نقرأ الواقع في سياقه، كي لا نجلد أنفسنا ونظلم ثورتنا أو نستسلم لليأس الذي يدفعنا إليه البعض خوفا منا وليس علينا.