بالنسبة إلي كفتاة صغيرة مصابة بداء الإفراط في الحركة وتتوق إلى اكتشاف العالم بدون تأجيل، لم يكن هناك شيء أكثر قسوة وظلما من أن يُفرض عليّ أن أنام خلال الفترة الممتدة بين الظهر والعصر، لأن ذلك كان كفيلا بجعل أيام العطلة ثقيلة صعبة وحبلى بالضجر، وحتى إن لم يكن مفروضا علي النوم خلال فترة القيلولة فقد كنت مجبرة أثناءها على التصرف مثل حجر جامد ممنوع عليه حتى التدحرج، مما جعلني أشعر بأن النوم خلال النهار مضيعة للحظات من عمري كانت كافية لتجريب أنواع مبتكرة من العفرتة. في الأيام الأولى من طقوس هذه القيلولة المقدسة بالنسبة إلى الكبار، كنت أتقلب في مكاني من فرط السأم وأختلق الأعذار لكي أفلت من هذا الجمود القاسي، لكن الجميع كان لي بالمرصاد، فالشيء الوحيد الذي كان مسموحا لي بالقيام به هو التنفس لأبقى على قيد الحياة.. هكذا كنت مطالبة بأن أُجمّد حياتي لمدة ساعتين يوميا. وسط هذا الضجر القاتل، وجدت مسلتي في كتاب «المُعَلقات السبع» الذي وجدته في ردهة مهملة من بيتنا. وبالرغم من صعوبة قصائده التي شكلت لي متاهة لغوية آنذاك، إذ لم أكن أفهم منها سوى مفردات عن الإبل والصحراء والخمر، فقد كانت قراءتها جنة خلاصي، حيث كان الوقت يمر سريعا بصحبتها. ومع توالي الأيام، بدأت أكتشف أن هذا السجن المؤقت الذي كنت أُودَع فيه يوميا لم يكن سيئا كما ظننت، لأنني وجدت متعة لا توصف في حفظ بعض الأبيات أو تذكر نوعية القافية لكل «مُعلقة». وقررت بعد ذلك أن أحضر المنجد لأبدأ في شرح بعض المفردات الصعبة. هذه العملية وحدها لقنتني دروسا مدهشة في اللغة العربية، حيث اكتشفت في ذلك العمر المبكر أنها لغة جزلة تطيع الاشتقاق والتجريب بطريقة تشبه السحر، إذ يمكن لثلاثة أحرف من المعجم أن تمنحك عشرات من المفردات ذات المعاني المتباعدة. تجربة الضجر هذه غيرت نظرتي إلى معنى الوقت والوحدة والإحساس بالملل إلى حد اليوم. وأصبحت أرى أن الشعور بها مجرد خدع ومراوغات نفسية. ولأن كتاب «المعلقات»، الذي قد يبدو معقدا ودسم المضامين، شكّل بالنسبة إلي، في لحظات من حياتي، طوق نجاة من الحصار الذي كان مفروضا عليّ، فقد اكتشفت عن طريقه أن أي كتاب وإن كان تافها أو معقدا ولا نفهم منه سوى النزر القليل، فهو بكل تأكيد قادر على إشعاع نور غريب بداخلنا وعلى تغيير مزاجنا وحتى مزاج ما هو محيط بنا. اليوم كلما سألني صديق أو قريب عن أحسن وسيلة لجعل أبنائه يدمنون القراءة أتذكر هذه الظروف التي تعرفت بواسطتها على كتاب «المعلقات السبع» وأجيبه: «وفر لهم الكثير من الضجر؟»، وحين يستغرب هذا الجواب، لأنه توقع أن أنصحه باصطحاب أبنائه إلى معارض الكتاب مثلا، أخبره بأنه وإن اشترى كل الكتب الممتعة الموجودة ووضعها داخل مكتبة من ذهب، فهذا لا يعني أنها سوف تغري الأطفال والمراهقين بالقراءة، فذلك أضحى صعبا للغاية نظرا إلى اللائحة الطويلة من المغريات التي تلتف حولهم اليوم من شاشة التلفاز والحاسوب وشبكة الأنترنيت وغيرها، والتي لن يقدر الكتاب على منافستها بأي حال. فيكفي أن تأمرهم بأن يتجمدوا في مكانهم مثل تماثيل في وقت القيلولة أيام العطل مثلما كان يفرض علي أن أفعل، وأن توفر لهم الظروف لكي يعيشوا صباحيات كسولة مملة وطويلة ومساءات تبعث على الضجر وأن تشعرهم بأنهم وحيدون.. وحيدون جدا، وأن لا أحد يفهمهم على وجه الأرض، حينها حتما سيبدو أي كتاب، مهما كان معقدا، جنة حقيقية؛ فشيء من الضجر والقسوة والملل لساعتين يوميا سيكون مفيدا للغاية، لاكتشاف أنه يمكن العيش بدون هاتف وبدون شبكة أنترنيت وحتى بدون كهرباء، فربما يكتشفون عن طريق الضجر ما لا يمكن للتكنولوجيا أن تمنحهم الفرصة لاكتشافه بقية العمر.