سيدي العلامة الجليل! قبل مدةٍ، كنتُ في مراكش أعكف على كتابة « الخطة العلمية للمعجم التاريخي للغة العربية» التي كلّفني بها اتحاد المجامع اللغوية والعلمية العربية. وواجهتني مشكلة في معالجة التغيُّر الصوتي. فتمنيتُ لو كنتُ بالقرب منك لتعينني على حلّها. وراودني شعور بتأنيب الضمير لأنني لم أتشرّف وأسعد بزيارتك منذ مدة، خشية إزعاجك أو مقاطعة دراساتك العلمية أو خلواتك الروحية. وعزمتُ على العودة في اليوم التالي إلى الرباط للتشرُّف برؤيتك. تذكَّرتُ، يا سيدي، تلك الأيام السعيدة التي كنتُ أجلس فيها، يومياً تقريباً، بين يديك، أنهل المعرفة من ينابيعك الثرة المعطاء، وأتلقى العلم المتدفِّق من ثغرك الطاهر الباسم. كنتُ قد حصلتُ على الدكتوراه في اللسانيات تخصُّص المعجمية من إحدى أرقى الجامعات الأمريكية، وعيّنتني المنظَّمة العربية للتربية والثقافة والعلوم التي كان مقرّها القاهرة، خبيراً في مكتب تنسيق التعريب بالرباط التابع لها، لمدة أربع سنوات. ولحسن حظي وطالعي، كنتَ أنتَ تدير هذا المكتب برتبة نائب المدير العام. قبل أن أتشرّف بمقابلتك الأولى، نبّهني كاتبك إلى ضرورة اختصار المقابلة، لأنَّ الأستاذ يعاني حبسةً في النطق فلا يستطيع التواصل مدّةً طويلة، كما قال. وعندما جلستُ بين يديك، رحَّبتَ بي بلسانٍ طلِقٍ وبابتسامةٍ تشرق في صبح وجهك الوضاء، وبيّنتَ لي طبيعة العمل في المكتب، وما الذي ينبغي أن أفعله، بلغةٍ رشيقةٍ صافيةٍ متدفقة. وبعد أن توطّدت أواصر المحبّة بيننا، واستمعتُ إلى العديد من محاضراتك القيمة وأنت تلقيها بلسانٍ طليق، تجرّأتُ فسألتك عمّا قيل لي عن حبسة لسانك التي لم ألحظها يوماً، فقلتَ لي ببساطةٍ: لا تحصل لي مع أناسٍ أُحبّهم. فازددتُ حبّاً بك واحتراماً لك. أحسستُ منذ بداية عملي، أنّ «الخبير» المفترض الذي هو أنا ينبغي أن يتتلمذ من جديد عليك أنتَ، لأتعلَّم منك مالم تعلّمني إياه الجامعات العربية والفرنسية والبريطانية والأمريكية التي ارتدتُها. شعرتُ أن تلك الجامعات علّمتني قواعد السباحة نظرياً وأنا جالس في قاعات المحاضرات، أما أنتَ فقد أخذتني بين ذراعيك، كأبٍ حنون، ونزلتَ معي إلى نهرِ معرفتك المتدفِّق، وعلّمتني كيف أسبح فعلياً، وكيف أغوص في أعماق البحار، لأجتبي لآلئ العلوم وجواهر الآداب. وأخذتَ تزقّني العِلم زقاً، شيئاً فشيئاً، رويداً رويداً، كما تزقّ الحمامةُ فرخها. واكتشفتُ جهلي منذ اللحظة الأولى، ولكنّكَ بلُطفك المغربي ودماثة خُلقك، كنتَ تخاطبني كما يُخاطَب العارفينَ، ولستُ منهم. في أوّل جلسة مثلتُ فيها بين يديك لأتشرف بأخذ العلم عنك، كان تساؤلي على قدر طموحي المتواضع المحدود: هل أستطيع أن أكون معجميّاً جيّداً دون أن أتعمّق في دراسة التاريخ، والجغرافية، والشريعة، والحضارة العربية الإسلامية، إلخ، إلخ، مثلك؟ كان جوابك واضحاً بالنفي لسببيْن: الأوَّل، لأنَّ المعجم هو سجل الثقافة برمتها. الثاني، لأنَّ (العربية) ليست صفةً لعرقٍ أو لغةٍ فقط، بل لثقافة. ونظرتَ في وجهي وأدركتَ أنني لم أفهم. فأخذتَ تشرح لي المفهوم بتأنٍ ورويةٍ ولطف، وتسوق الأمثلة من القديم والحديث، من الشرق والغرب، فقلتَ: إنَّ النسبة إلى جميع اللغات قد تدلُّ على عرق الناطقين بها، إلا العربية، فإنّها أشد التصاقاً بثقافتها. وهي الوحيدة بين اللغات الحية من حيث اقترانها بعقيدةٍ محدّدةٍ وثقافةٍ معيّنةٍ وذلك لنزول القرآن بها. ولهذا تهفوا إليها قلوب المسلمين في جميع أنحاء العالم، ويعدّونها أشرف اللغات، ويتمنّون تعلُّمها. والتراث العربي ليس وقفاً على العرب، فقد ألَّف بالعربية البخاري من أوزبكستان، والبيروني من الهند، وابن سينا من إيران، وابن رشد من الأندلس والمختار السوسي من «سوس العالمة» في المغرب. وإذا لم تستوعب هذه الحقيقة، فإنك لا تستطيع أن تدرك مغزى الحديث النبوي الشريف: « سلمان منا آل البيت»، وهو يعني سلمان الفارسي. ولا الحديث النبوي الشريف: « العربي كلُّ مَن تكلّم بالعربية»، ولا تستطيع أن تفسِّر نتائج البحث الذي أجراه الأمريكان في إثيوبيا والذي أظهر أنَّ الأثيوبيّين يعتقدون بأنّ أجمل اللغات، وألطفها موسيقى، وأجلّها قدراً، هي العربية، على الرغم من أنَّ لغتهم الإمهارية هي أخت العربية وقريبة منها في نظامها الصوتي والصرفي والنحوي؛ ولا تستطيع أن تفهم لماذا يسمِّي الأمازيغي في ذرى جبال الأطلس مولودَه باسم « العربي»، فهذه الصفة لا تعني له العرق بل « المسلم». وأضفتَ قائلاً: وأنا من أصل أمازيغي. وعجبتُ لهذه الإضافة، لأنني أحسستُ بأنك تقرأ ما في قلبي. كنتُ أحسب خطأً أنكَ من أصول أندلسية بسبب وجهك الأشقر وعينيْك الخضراوين. فأردتَ أن تصحّحني بلطف. تُرى هل قرأتَ فكري أم أنّ بصيرتك الصوفية هي التي نفذت إلى أعماق قلبي؟ فقد سمعتُ من بعض زملائي في بداية عملي أنك متصوّف كبير. فعجبتُ لقولهم، لأنني لم أرَ أثراً لملابس الصوف والخرق والجوع عليك، بل كانت أناقتك تضاهي وسامتك، ولهذا سألتك ذات يوم عن التصوّف. فقلت لي إنّه الإخلاص في العمل، والتمسّك بالأخلاق الحميدة التي أقرّتها أو أتت بها الشريعة الإسلامية. بيد أني، سيدي، وقعتُ على بعض كراماتك مصادفة. ذاتَ يوم كنا مسافرين إلى فاس بالسيارة. وكنتَ أنت سادراً في ذكر الله والتسبيح، كعادتك عندما لم تكُن في شغل أو حديث. وتناهت إلى أنفي رائحةٌ طيبةٌ زكية. فاستأذنتُك وسألتك ما إذا كانت المنطقة التي نمرّ بها فيها مزروعات لها تلك الرائحة. فأجبتني: إنها رائحة الملائكة التي تتجمّع على ذكر الله. وهنا تذكّرت درس أستاذ « علم النفس الموازي « في جامعة تكساس في أوستن الذي قسَّم العالم إلى قسميْن: عالم مرئي وعالم غير مرئي، وكيف يؤثِّر أحدهما في الآخر. وبعد مدَّةٍ طويلة عندما عملتُ في الإيسيسكو، روى لي زميلي الأستاذ المرحوم حسن السايح إحدى كراماتك. قال إنّ ولده الطبيب كان يعنى بك في المستشفى بعد أن ألمّت بك أزمة صحيّة خطيرة، وذات ليلة تأكَّد له أنك ستنتقل إلى جوار ربك خلال أربع وعشرين ساعة، على الرغم من أنَّ شفتيْك كانتا مشتغلتيْن بذكر الله، فقرّر أن ينصح أهلكَ في الصباح بضرورة حملك إلى المنزل. وعندما وصل الطبيب في الصباح إلى غرفتك في المستشفى، وجدك تتأهّب فعلاً لمغادرة المستشفى إلى منزلك، لأنك شُفيتَ تماماً. فحدّثتُ زميلي الأستاذ السائح عمّا درستُه من النظرية (الإيحائية) للعالِم زامنهوف، الذي أثبت أنَّ الإرادة الروحية يمكن أن تتحكَّم في الجسد وتشفيه. عندما أخذتُ أتعلّم على يديك، بدأتَ معي من البديهيات، وأخذتَ تقودني خطوةً خطوةً في دروب المعرفة المتشابكة. أذكر أنني كتبتُ اسمكَ، ذات مرةٍ، «عبد العزيز بن عبد الله»، فقلتَ لي بابتسامةٍ ودود: إن « بن عبد الله « يعني أنّ اسم الوالد عبد الله، أما إذا أُدمِج «بنعبدالله»، فيعني أن الشخص ينتمي إلى أُسرة عُرِفت باسم (بنعبدالله) نسبةَ إلى أحد أجدادها. واليوم، أنا أستفيد من هذه المعلومة في فصل التغيُّر الإملائي في « الخطّة العلمية للمعجم التاريخي للغة العربية». بعد مدّةٍ يسيرة، اكتشفتُ أن اسم والدك ليس «عبد الله»، بل الشيخ «عبد الواحد» الذي كان إماماً لأحد مساجد الرباط، وأنّه كان يحثّ المصليِّن على مجاهدة المحتلّين الفرنسيين بشتّى الطرق. فاعتقلتْه السلطات الفرنسية وقدّمته إلى المحكمة بتهمة التحريض. فوقف في المحكمة، لا لينفي التهمة عنه، بل ليؤكّد للقاضي الفرنسي أنَّ جهاد المستعمِر المحتلّ لأرض الوطن هو واجب مقدَّس في شريعتنا وحضارتنا، فيُحكَم عليه بالسجن. ومن هنا، استطعتُ أن أعرف جذور عزّة النفس والكرامة والأنفة التي تتحلّى بها. فقد لاحظتُ أنك لا تذهب إلى المطار في الدارالبيضاء لاستقبال مديرنا العام عندما يأتي بزيارة رسمية للمكتب، كما تقضي الأعراف الإدارية، فأذهبُ أنا لاستقباله واصطحابه إلى مكتبك. فكنتَ لا تقوم من مقعدك، ولا تمدّ يدك لمصافحته، بل تستمرّ في قراءة كتابك أو كتابة دراساتك؛ على حين كنتَ متواضعاً وباشاً في وجوه صغار الموظَّفين والضعفاء من الناس، كأنك تستهدي بمقولة الخليفة الراشد أبي بكر الصديق: « القويُّ منكم ضعيف عندي، حتى آخذ منه الحقَّ؛ والضعيف منكم قويٌّ عندي حتى آخذ له الحقَّ». ورحتُ أتساءلُ في نفسي: هل كنتَ تعدّ ذلك المدير العام جاهلاً، لأنّه كان يدخّن السيكار ويعاقر الخمرة. ساعدني موقف والدك المرحوم أمام القاضي الفرنسي على فهم بعض مواقفك الأخرى، على وجه الخصوص استقالتك من رئاسة المجلس العلمي للعدوتين الرباط وسلا، احتجاجاً حضارياً على تصرُّفٍ اتخذته بعض السلطات، ورأيتَ فيه مسّاً باستقلالية المجلس العلمي الذي ترأسه. وما يضيرك أن تستقيل من رئاسة ذلك المجلس، على علوِّ قدره، وأنت الذي كانت تسعى إليك المجالسُ والأكاديميات والمجامع من واشنطن وجنيف ووارشو حتى الهند وكوالا لمبور لتتشرَّف بعضويّتك. ولكي أتلقّى منك بعض علمك، كان عليّ أن أدرس أو أقرأ على الأقل مؤلّفاتك القيمة. وعندما اطلعتُ على قائمة تلك المؤلَّفات، هالني الأمر واستعظمتُه. فمؤلَّفاتك تربو على المائة، وبعضها يقع في مجلدات، وهي متنوعة الموضوعات، متباينة المجالات. فأنتَ كتبتَ في التاريخ، والجغرافية، والقانون، والفقه، والتصوّف، والتفسير، والحديث، وحقوق الإنسان، والتربية والتعليم، وعلم الأديان المقارن، وعلم اللغة المقارن، والتأثيل، والمعجمية، والمصطلحية، والترجمة، والصحافة، والسياسة، وحتى القصة والرواية، مستخدماً السرد التاريخي وسيلة لإنهاض الهمم، وبث الاعتزاز بالشخصية الوطنية، لمقارعة الاستعمار، كما كان يفعل العلامة المرحوم جُرجي زيدان. وتنوَّعتْ معاجمك التي تنيف على خمس وأربعين معجماً في موضوعاتها، والتي ألّفتَها لتجعل من اللغة العربية لغةً علميةً عصرية بعد أن أراد المستعمِر إقبارها. فصنّفتَ المعجم الطبي، ومعجم العظام، ومعجم الدم، ومعجم الأحجار والفلزات والمعادن، ومعجم الحرف والمهن، ومعجم النبات والزهور، ومعجم السكر والبنجر والشمندر، ومعجم الألوان، ومعجم السيارة، ومعجم البناء، ومعجم المغرب التاريخي، ومعجم المتواردات الذي كان رائداً في المكتبة العربية، وغيرها وغيرها. كنتَ تجيد اللغة الفرنسية أفضل من كثير من الكتّاب الفرنسيّين بشهادة علماء فرنسيّين زاروك في مكتبك وسمعتهم بنفسي. ولكنّكَ لم تستعمل فرنسيتك يوماً مع الموظفين ولا في مكاتباتك الإدارية، كما يفعلون في المغرب. نعم لقد ألّفتَ بالفرنسية خمسة عشر كتاباً قيماً. ولكنّها جميعاً في التعريف بثقافتنا الإسلامية، والدفاع عن قضايانا الوطنية كقضية فلسطين. فقد أصدرت مجلةً كاملة بالفرنسية بعنوان « القدس» كنتَ توزعها في الدول الأوربية والإفريقية التي تستعمل الفرنسية، تعريفاً بالقضية الفلسطينية. وتساءلتُ في نفسي متى اكتسبتَ جميع هذه العلوم لتؤلِّف وتبدع فيها، فقد تخرّجتَ في جامعة الجزائر سنة 1946 حاملاً الليسانس في الآداب والحقوق، ثمَّ انخرطتَ في الكفاح ضد المستعمر الفرنسي، متخذاً من التعليم العربي الحرّ والصحافة الوطنية مجالاً لكفاحك ونشاطك. فمن أين لك كلُّ الوقت اللازم لهذه المؤلّفات، وكم يلزمني من الوقت لقراءة بعض مؤلفاتك؟!. كنتُ ذات مرّة جالساً بين يديك أتلقى العلم منك، وجاء أستاذٌ جامعيٌّ يزورك، وكنتُ على وشك الخروج من المكتب تأدُّباً، فأشرتَ إليّ بعينيكَ أن أبقى. فحدّثك الأستاذ بإعجاب عن رواية « جذور» للكاتب الأمريكي ألكس هيلي، التي يسرد فيها تاريخ العبيد السود في أمريكا، والتي تُرجِمتْ إلى لغات عديدة، وأُنتِجت فيلماً سينمائياً ومسلسلاً تلفزيونياً. وأردتُ أن أُبيّن لك بأنني أعرف شيئاً ولو يسيراً ، فاستأذنتك، سيدي، في الحديث، وقلتُ بشيء من الفخر: « أنا أعرف ألكس هيلي، فقد قرأت له كتاباً جيّداً عن سيرة « مالكولم أكس» زعيم المسلمين السود في أمريكا، وقرأتُ روايتُه « جذور» كذلك، وكنتُ قد التقيته في بانجول عاصمة غامبيا، عندما كنتُ أشرف على إعداد برنامج تعليم اللغة العربية للغامبيين بالراديو، وكان ألكس هيلي في غامبياً آنذاك لزيارة قرية « كنتي كنته» التي اختُطف منها جدُّه من قِبل شركات صيد العبيد الأمريكية، ونُقِل بباخرةٍ مخصَّصة لذلك إلى أمريكا. قلتُ هذا لأحظى برضاك، وإذا بك تقول مداعباً لي: «كان على ألكس هيلي أن يأتي إلى المغرب للبحث عن جذوره الأصلية الحقيقة.» قلتُ: « كيف، سيدي؟» قلتَ: « كنتي هي اسم قبيلة مغربية صحراوية، احترفت الترحال، وامتهنت تعليم القرآن الكريم في بلدان غرب أفريقيا، وأسَّست فيها عدداً من القرى تحمل اسمها.» طبعاً، أنتَ أدرى مني. فأنتَ مؤلّفُ موسوعة مغربية هامة، تشتمل على عدّة معلمات، مثل « معلمة القبائل والمدن في المغرب» و» معلمة الصحراء» و « معلمة الرباط»، ، و « معلمة الفقه المالكي»، و «معلمة المفسِّرين والمحدِّثين»، وغيرها. تذكرتُ كلَّ ذلك وأنا أواجه مشكلتي في تأليف «الخطة العلمية للمعجم التاريخي للغة العربية»، فاشتقتُ إليك، وعزمتُ على زيارتك في الرباط، فجمعتُ أوراقي من طاولة المقهى التي أكتب عليها في مراكش، ونهضتُ؛ فإذا بصديقي المؤرخ الأستاذ أحمد متفكّر يلتقيني ويعزّيني بوفاتك، يا سيدي. لم أُصدِّق ما سمعتُ، لأنني لم أقرأ هذا النبأ المُحزِن في أية صحيفة يومية، ولم اسمعه من أية إذاعة جهوية، على الرغم من كثرة ما أقرأ وأسمع. فليس من المعقول أن تزخر وسائل الإعلام أياماً عديدة بخبر وفاة مُغَنٍ من الدرجة الرابعة، أو أخبار مدرّبٍ رياضيٍّ فاشل، أو حتى خبر انتقال لاعب أجنبي محترف من نادٍ رياضيٍّ إلى آخر في أوربا، ولا تذكر شيئاً عن رحيل واحدٍ من أكبر العلماء الموسوعيين العرب، إن لم يكن أكبرهم!!! وتذكّرتُ الجواب الذي لقّنتَني إياه: إنّ السياسات التعليمية والإعلامية في الأقطار العربية ترمي إلى تجهيل الناس ليسهل للمتسلطين التحكُّم فيهم، وذلك بتعميم اللهجات والدارجات العربية العامّية، وحجب أية برامج ثقافية فكرية، والإكثار من الأغاني الخفيفة والرقص الهابط وكرة القدم، وتوسيع التباعد والقطيعة بين البلدان العربية، لكي لا تحلم شعوبها في يوم من الأيام باتّحادٍ من أي نوع كالاتحاد الأوربي او الاتحاد الأمريكي. أُنبِئكَ، شيخي، بقلبٍ حزين أنّ المسؤولين في حكوماتنا لا يريدون اللغة العربية الفصيحة المشتركة، ولا التعريب، بل يعمّمون استعمال لغة المستعمر القديم، الإنكليزية أو الفرنسية، في التعليم والإدارة والحياة العامة. وهم لا يحبّذون مصطلح « الوطن العربي» الذي استعملتَه أنتَ في الخمسينيّات من القرن الماضي، فأسَّستَ عندما كنتَ مسؤولاً عن التعليم الجامعي والبحث العلمي بُعيد استقلال المغرب، « معهد الدراسات والأبحاث للتعريب» لتعريب لغة الإدارة والتعليم في المغرب المستقلّ، وأسَّستَ « مكتب تنسيق التعريب في الوطن العربي» للحفاظ على وحدة المصطلح العربي تمهيداً لوحدة الأمة العربية. إنّهم على عكس ذلك، فقد سايروا المستعمرين الجدد في تغيير اسم « الوطن العربي» ، إلى « العالم العربي» ثمّ إلى « البلدان العربية» ثم إلى « بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا»؛ وتباروا في إنشاء الفضائيات والإذاعات والصحف بلغة المستعمِر القديم، الإنكليزية أو الفرنسية، أو بالدارجات العاميّة الجهوية، وأنفقوا أموالاً طائلة من أموال شعوبهم على عقد المؤتمرات والندوات المتلاحقة حول ضرورة استخدام الدارجات العاميات العربية لغات رسمية وحول كيفية كتابتها، تمهيداً لتقسيم كل بلد عربي. عندما كنتَ تدرس في جامعة الجزائر أيام الاستعمار الفرنسي، سيدي، كانت في الجزائر صحيفتان فرنسيتان فقط. أمّا اليوم في عهد الاستقلال وبعد تقديم أكثر من مليون شهيد على مذبح الحرية، توجد في الجزائر اثنتان وثلاثون صحيفة فرنسية. العالم كلُّه يعترف باللغة العربية الفصيحة المشتركة لغة عالمية ورسمية في المنظّمات الدولية، وجميع إذاعاته الموجَّهة إلينا هي باللغة العربية الفصيحة، مثل سي أن أن الأمريكية، وبي بي سي البريطانية، وفرنسا 24 الفرنسية، والإذاعة الألمانية، وإذاعة بكين، وإذاعة طوكيو، كلّها بالعربية الفصيحة المشتركة، ما عدا إذاعاتنا وفضائياتنا، فهي إمّا بلغة المستعمر القديم، الإنكليزية أو الفرنسية، وإمّا باللهجات العامّية العربية. إنّهم يخرّبون لغتنا، ويحطّون من ثقافتنا، ويطعنون هُويتنا، ويشتتون شملنا؛ وسيُحاسبون يوماً على كلِّ هذه الأفعال المخالفة لدساتيرنا. إلى الله وإليك أشكو، شيخي الفقيد: أزمعتَ عنّا إلى مولاكَ ترحالا لمّا رأيتَ مناخَ القومِ أوحالا