جاءت رسالة الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى فلاديمير بوتين، لتهنئته بالرئاسة، بمثابة سحب فتيل التوتر الخطر الذي ساد العلاقة بين الدولتين الأمريكية والروسية، وذلك عندما اتهمت أمريكا بوتين وحزبه بتزوير انتخابات الدوما (البرلمان الروسي) الأخير. وراحت تحرّض الشارع الروسي على الانتفاض وصنع «ربيع» روسي يطيح ببوتين وحزبه. وكان ذلك إيذانا بمعركة كسر عظم، لأن التوجّه الأمريكي لإسقاط بوتين في الانتخابات الرئاسية أو وضعها في دائرة التزوير، ومن ثم عدم الاعتراف بشرعيته، سيدفع التناقض بين الدولتين إلى حدود قصوى. كثيرون لم يلحظوا أن التشكيك الأمريكي في انتخابات الدوما والتهيئة للتشكيك في الانتخابات الرئاسية يمسّ الوجود الروسي الراهن من حيث أتى بما يتعدى حتى أي مساس بمصالح روسيا الأخرى، حتى لو كانت تلك المتعلقة بفناء دارها أو تهديدها بالدرع الصاروخية أو علاقاتها بسوريا وغيرها. ولهذا جاء الفيتو الروسي في مجلس الأمن جازما غير قابل للمساومة، كما كان الحال مثلا في الموضوع الليبي أو حتى في عدد من القرارات التي مرّرت ضد إيران؛ فالتناقض حين انتقل للمساس ببوتين وحزبه ووجودهما، ومن ثم السعي إلى استعادة الحالة التي كانت عليها روسيا في عهد يلتسين أصبح الهدف المركزي في السياسة الروسية يتطلب مواجهة أمريكا والرد عليها بكل الحزم المطلوب. جاءت السياسة الأمريكية المذكورة في فترة تزامنت مع إعلان إدارة أوباما انتقال الأولوية في الاستراتيجية إلى المحيط الهادي، بما يعني التوجّه لمحاصرة الصين واحتوائها. وهذا الذي يُفسّر الاندفاع الصيني لتدعيم الفيتو الروسي في مجلس الأمن بفيتو ما كانت الصين بحاجة إليه لولا هذا التحدّي الأمريكي، ومن ثم ضرورة الردّ عليه بحزم لم يقبل المساومة في حينه. ومن هنا جاء الفيتو المزدوج، وإن كان موضوعه المباشر متعلقا بسوريا، ليخرج إلى العلن محوريْن متواجهيْن في المجال الدولي الأمريكي الأوربي، من جهة، والروسي الصيني، من جهة ثانية. وبدا الأمر جدّا ما لم تتراجع أمريكا عن التحريض ضدّ بوتين والتهيئة لعدم الاعتراف بشرعية انتخابه رئيسا حين يأتي موعد الانتخابات. تأخرّ أوباما بضعة أيام قبل أن يُهنئ بوتين بنجاحه القوي في الانتخابات الرئاسية. ولكن هذا التأخير حين انتهى بإرسال برقية التهنئة، والدعوة إلى فتح صفحة جديدة في العلاقات الروسية الأمريكية أزيل السبب المباشر الأخطر الذي وتّر تلك العلاقات خلال البضعة أشهر الماضية. ثم تكلل التراجع الأمريكي بترضية أخرى من خلال الالتقاء مع روسيا في الدور الذي أنيط بكوفي أنان مبعوثا دوليا لإيجاد حل سياسي للأزمة السورية، وقد عُبِّر عنه بمبادرة أنان ودعم مجلس الأمن له. وبهذا تراجع خطوة إلى الخلف ما بدا انقساما للعالم إلى محوريْ أمريكا أوربا، من جهة، وروسيا الصين، من جهة ثانية. ولكن يمكن القول إن الجمر تحت الرماد إلى أن تنتهي الانتخابات الرئاسية الأمريكية وتحسم بعدها الخيارات الاستراتيجية الأمريكية إزاء كل من روسيا والصين. بل إن إعلان إدارة أوباما عن انتقال الأولوية في الاستراتيجية الأمريكية إلى المحيط الهادي لم يدعم بانضمام الحزب الجمهوري إليه حتى يحظى بإجماع أمريكا، ويصبح الاستراتيجية التي لا تتغير بتغير الرئيس أو بفوز أحد الحزبين الجمهوري أو الديمقراطي على الآخر، وذلك كما كان عليه الحال طوال مرحلة الحرب الباردة. يمكن أن يلحظ عند هذا الحد أن أمريكا في عهد إدارة أوباما قد ورثت الإخفاقات الأمريكية السياسية على مستوى عالمي، ولاسيما على مستوى ما أسمته زورا بالشرق الأوسط، فضلا عن وراثة الأزمة المالية التي أطاحت، عمليا، بأعمدة قامت عليها العولمة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. الأمر الذي أفقدها القدرة على التحرك ضمن استراتيجية محددة المعالم أو سياسات تحمل درجة من التماسك والاستمرارية. ولا مبالغة إذا قيل إن السياسة الأمريكية خلال الثلاث سنوات الماضية اتسمت بالارتباك والتردد والتقلب وفقدان التماسك. وكان آخر الدلائل على هذه السمة تغير الموقف من هجوم كاسح لإسقاط بوتين بعد انتخابات الدوما الأخيرة إلى تراجع ملحوظ حول السياسة باتجاه الاعتراف غير المنقوص أو الغامض بعودته رئيسا لروسيا، بل ومدّ يد التعاون، والتلويح بتقديم تنازلات ترضية بدأت ببعثة كوفي أنان، وهمست بإمكان الدخول في مفاوضات جديدة حول استراتيجية الدرع الصاروخية. البعض قد يفسر ذلك بسبب انشغال إدارة أوباما بمرحلة الانتخابات الرئاسية، ولكن ذلك صاحَبَ إدارة أوباما طوال الوقت إذا ما دُقق جيدا في السياسات الأمريكية بالنسبة إلى أغلب القضايا الرئيسة التي تعرّضت لها. هذه المعادلة الجديدة التي حدثت بعد التراجع الأمريكي عن المعركة التي فتحتها ضدّ بوتين وحزبه إثر انتخابات الدوما أدخلت العالم في مرحلة انتقالية بالنسبة إلى العلاقات الأمريكية الروسية، فهذا التراجع لا يكفي للخروج برؤية لما ستؤول إليه العلاقات خلال السنة الراهنة وإلى انتهاء المعركة الانتخابية الرئاسية الأمريكية. فالتوتر الذي كان سائدا حتى برقية أوباما بتهنئة بوتين قد هدأ ولم يعد في المستوى الذي حتم الفيتو الروسي الصيني في مجلس الأمن. ولكن في الوقت نفسه لا يكفي للقول إن المساومة أصبحت في متناول اليد، أو شبه حتمية بالنسبة إلى المواجهة التي اتخذت مسرحها في الأزمة السورية. فالأمر هنا متوقف على المدى الذي يمكن لإدارة أوباما أن تذهب إليه في الاعتراف بالدور الروسي الشريك في إدارة شؤون العالم، كما بالنسبة إلى موضوع الدرع الصاروخية المضادة للصواريخ. وهذان موضوعان مترابطان ويقعان في المرتبة الاستراتيجية الثانية لروسيا بعد المعركة التي فُتحت ضد بوتين وحزبه، لأن الأخيرة كانت تمسّ الوجود السوري من حيث الأساس أو من حيث أتى. ولكن مع إغلاق ملف الانتخابات البرلمانية والرئاسية الروسية سيقفز فورا موضوع الدور الروسي في تقرير مصائر الوضع الدولي؛ فروسيا اليوم استعادت الطموح الذي فرضه الاتحاد السوفياتي في مرحلة الحرب الباردة. ولهذا ثمة من وجدوا شبها بين الفيتو الروسي الأخير في مجلس الأمن من حيث تحدّيه الصارخ لأمريكا وأوربا، من جهة، والإنذار السوفياتي الذي أصدره بولغانين في أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. وقد اعتُبِر في حينه أن الاتحاد السوفياتي قفز ليصبح لاعبا دوليا موازيا لأمريكا. طبعا، يمكن لمن يريد، أن يجد فروقا بين الحالتين المقارنتين. ولكن مع كل وجاهة تلك الفروق عند الغوص في التفاصيل، فإن ما رمز إليه الفيتو الروسي في مجلس الأمن ورفض كل عروض المساومة عليه يجب أن يُفهم باعتباره دورا جديدا لروسيا غير ما كان عليه الحال خلال العشر سنوات الماضية، ودعك من مرحلة يلتسين الهزيلة، المسخ. صحيح أن ما يسعى بوتين إليه من مساومة أمريكا عليه ليس بالسهل أو المقبول بالنسبة إليها. ولكن ما آلت إليه من ضعف على المستوى الدولي والاقتصادي، من جهة، وتركيزها على مواجهة الصين باعتبارها الدولة الكبرى الأخطر عليها وعلى السيادة الغربية عموما، من جهة ثانية، يجعلان أمريكا أكثر هشاشة أمام مطمح بوتين بانتزاع شراكة ندّية معها. والسؤال هو: هل يمكن للاستراتيجية الأمريكية، بالرغم من الاعتباريْن المذكوريْن، أن تعمل على تحييد روسيا على الأقل في حالة استمرار ما أعلنته إدارة أوباما من نقل أولوية الاستراتيجية إلى المحيط الهادي لمواجهة الصين أم ستنتهج تجربة أخرى في العلاقة ما بين كل من الصين وروسيا؟ الإجابة عن هذا السؤال يجب أن تنتظر صيف عام 2013 بعد أن تستقر الإدارة الأمريكية حتى لو انتخب أوباما مرّة أخرى، ولم يفز الجمهوريون بها. وبالمناسبة، ثمة مشكلة خطرة داخل أمريكا نفسها تتمثل في عدم تشكل إجماع وطني على الاستراتيجية الأمريكية الحالية والقادمة. الأمر الذي يشكل نقطة ضعف لا تقلّ أهمية عما تعانيه من ضعف دولي واقتصادي متعدّد الأوجه.