نظرا إلى الدور الطلائعي الذي أصبحت تقوم به اللامركزية الترابية في الوقت الحاضر، فقد أضحت لها أهمية كبرى، سواء على مستوى البناء الديمقراطي (أولا) أو على مستوى الأهمية التنموية (ثانيا). الأهمية الديمقراطية لقد حظي موضوع الإدارة المحلية باهتمام بارز ما فتئ يتزايد جيلا بعد جيل بفعل الدور الأساسي الذي تلعبه في البناء الديمقراطي باعتبارها أداة لإقامة الديمقراطية المحلية. ومن ثمة، أضحى سؤال الإدارة المحلية بالغ الأهمية لدورها المحوري في مختلف السيرورات الانتقالية نحو الديمقراطية ودولة القانون، مما يجعلها قادرة على مواجهة كافة التحديات. وفي هذا الاتجاه يرى «العميد» موريس هوريو أن المؤسسات الجماعية تلعب دورا في تعليم الحرية لا يوازيه إلا الدور الذي تلعبه المدارس الابتدائية في تعلم العلم، فهي تجعل الحرية في متناول الشعب وتجعله يتذوق تقييد حكومة حرة، لكن دون أن تتمتع بروح الحرية ( ). ومما لا شك فيه أن الديمقراطية أصبحت الفكرة المحورية لعلاقة الدولة الحديثة بالمجتمع المعاصر، وهي فكرة لها أبعاد متعددة، من بينها التأكيد على أولوية السكان في تدبير شؤونهم المحلية، وهذا يفترض إقامة نظام الإدارة المحلية على أسس انتخابية حرة ونزيهة تمكن السكان من اختيار من ينوب عنهم في تدبير الشؤون العامة المحلية المتصلة بحياتهم اليومية، والخدمات الإدارية والاجتماعية التي أصبحت اليوم ضمن المسؤوليات المعترف بها للمنتخبين المحليين؛ فالديمقراطية تعتبر بحق أكبر دليل على انفتاح الدولة على مجتمعها، والتنظيم الإداري المحلي يعد فضاء خصبا للتطبيق العملي ومجالا مناسبا لتنظيم مشاركة المواطنين في الحياة السياسية للبلاد ( ). ولعل شكل التنظيم الإداري الحالي يعتبر أهم ما وصل إليه الفكر الإداري في المجال الديمقراطي، ويظهر ذلك عندما نلاحظ أنه، إلى جانب الإدارة المركزية التي ظلت تتحكم في دواليب الحياة العامة لنظام سياسي، هناك الإدارة المحلية لمواجهة المشاكل المحلية التي أصبح من الصعب على المركز أن يواجهها بما يتطلبه ذلك من سرعة وفعالية، سواء في الميدان الإداري أو الاقتصادي أو الاجتماعي ( ). ويقودنا هذا المسلسل إلى صياغة سياسة تحديث مصحوبة بتقليص دور الدولة في المجتمع بكيفية تؤدي إلى إرساء علاقة مبنية على المسؤولية والفعالية والشفافية، وتصور جديد للسلطة في علاقتها ببيئتها، وهذا هو المفتاح الهام للتغيير في الأفق الذي يكون من شأنه تحديد المثل الأعلى الإداري ( ) من أجل تحقيق التنمية بمختلف أبعادها، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وتبقى الأهمية السياسية أهمية محورية في نجاح الإدارة اللامركزية، مما يستدعي الحاجة إلى مزيد من الحرية السياسية التي من شأنها توسيع نطاق عمليات صناعة القرارات الخاصة بالسياسة العامة، ومما لا شك فيه أن للمواطنين دورا في رسم هذه السياسات العامة عن طريق المشاركة السياسية والتدبير المباشر للشؤون الجماعية عن طريق اختيار ممثلهم. فكلما اتسعت رقعة المشاركة السياسية أدى ذلك إلى إخراج سياسات عامة معبرة تعبيرا موضوعيا عن احتياجات المواطنين الحقيقية المتزايدة، كما أن من مؤشرات التنمية الإدارية المحلية وجود ديمقراطية محلية، إذ إن دمقرطة المجتمع ومأسسة آليات اشتغاله من المظاهر الجوهرية لتحقيق التنمية الإدارية، بما يقتضيه ذلك من فسح المجال لسمو المجتمع المدني من جمعيات، ووسائل إعلام واتصال للحد من السلطة القسرية للإدارة، وفصل مؤسساتي فعلي بين مختلف البنيات الإدارية والسياسية والاقتصادية. وفي ذلك استدراك من جانب الدولة لما قد يتحول إلى كتلة مناهضة لها، فتحمل المجتمع المدني جزءا من المسؤوليات المرتبطة بالجانب الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، بل وأحيانا السياسي كذلك؛ فالدولة المعاصرة لا تبيد المجتمع المدني وإنما تشركه في الأهداف، بالإشراف على رسم الاستراتيجيات، عبر استعمال آليات الحوار واللجان المشتركة ومبدأ الشراكة. لقد باتت الدولة مقتنعة بأن من مصلحتها أن تدمج المجتمع المدني في استراتيجيتها، وأن تصيره آلة اشتغال مولدة للطاقة تعجز الدولة عن توليدها، وهي طاقة تلطيف وتحفيز في آن واحد ( ). ومن هذا الباب، فإن اللامركزية هي الأساس لكل إدارة محلية تنموية. لقد قيل الشيء الكثير عن العلاقة بين الإدارة والتنمية، كما تعرضت العديد من الدراسات للارتباط الموجود بين الإدارة المحلية وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية في مختلف المجتمعات بغض النظر عن اختلاف أنظمتها السياسية والاقتصادية والثقافية. ومجمل القول في هذا الصدد هو اعتبار الإدارة المحلية شرطا من شروط تحقيق التنمية. وبما أن التنمية تعد من الأهداف الأساسية للدولة إن لم نقل من مبررات وجودها، فإن حاجة الدولة إلى الإدارة المحلية ملحة وأكيدة، وذلك اعتبارا للمميزات الإيجابية التي تتمتع بها هذه الأخيرة في علاقتها بالمحيط المحلي. وتتمثل هذه المميزات في الخدمات المتنوعة التي يسديها نظام الإدارة المحلية، وكذا في الآفاق الواسعة التي يتيحها أمام الجهود التنموية المبذولة ( ). أضف إلى ذلك أن الجماعة المحلية قد فرضت وجودها كإطار يسمح بالعمل على تقريب الإدارة من المنتفعين وتسهيل الحصول على عدد من الخدمات ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ( )، إذ إن الإدارة لم تعد تستمد مشروعيتها من مؤسستها فحسب، وإنما أيضا من مدى قدرتها على تحسين علاقاتها بجمهورها ( )، نظرا إلى المتطلبات الواسعة للمواطنين الذين أصبحوا يلحون على خدمات سريعة ذات جودة عالية وقريبة منهم، ويكون بذلك دور الإدارة المحلية دورا أساسيا لتكريس إدارة مواطنة، وذلك بتأصل وإشاعة ثقافة المرفق العام داخل الإدارة وجعل التواصل مع جميع مكونات المجتمع من الانشغالات المركزية والدائمة للإدارات العمومية ( )، ليكون بذلك تحسين العلاقات بين الإدارة والمواطنين والمرتفقين والمتعاملين معها من أهم أوراش الإصلاح الإداري وتحديث الإدارة بغية تحقيق التنمية الشاملة انطلاقا من الوظائف المتعددة للإدارة المحلية، خصوصا وأن هذا المصطلح أصبح يكتسي عدة معانٍ وأن التنمية، التي يطلق عليها المستدامة أو الشاملة، تأخذ بعين الاعتبار المعطيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ( ). وفي ظل هذا الاهتمام المتزايد في كل بقاع العالم بالجماعات المحلية كإطار ملائم ومناسب للمساهمة في صياغة استراتيجيات جديدة للتنمية، بات من الضروري أن ينتقل دور الإدارة المحلية من المساهم إلى الشريك الفعلي والمنشط الحقيقي للتنمية، وكذلك المنسق الأمثل لتدخلات مختلف الشركاء الاقتصاديين. وخلاصة القول أنه بعد مضي فترة من المركزية التي كانت مرحلة ضرورية لإرساء المؤسسات ولوضع قواعد صالحة للتنمية الاقتصادية والإدارية والاجتماعية للبلاد، عمدت الدولة -كما يظهر- إلى اعتماد اللامركزية وتعزيز اللاتركيز من أجل إعادة تنظيم الإدارة وإعادة توزيع السلط والوسائل بين المركز والمحيط بقصد تحسين تسيير الشؤون العامة وكذلك إنجاز التنمية المحلية. لكن هذه التنمية مازالت تعتريها العديد من الصعوبات على الرغم من الجهود المبذولة، سواء على المستوى المالي أو البشري. العوائق الموضوعية للتدبير المحلي اللامركزي إن التدبير الجدي للشأن المحلي يقتضي تمكين كل جماعة محلية على حدة من الإشراف على مصالح المواطنين وتدبير شؤون ومرافق الجماعة بالشكل المطلوب، وهذا يقتضي توفير معطيات مادية وبشرية معينة، للاستجابة لمتطلبات تدبير الشأن المحلي. ولتحديد إيجابية أو سلبية التدبير، فإن الأمر يرتبط بمدى معرفة ووعي المنتخبين المحليين، وتوفرهم على الخبرة والكفاءة اللازمتين لتحقيق التدبير الجيد، وتوفر الموارد البشرية والمادية، وكذا الظروف الملائمة في إطار الاستقلالية والشفافية. وحتى لا تبقى هذه الاختصاصات بدون تفعيل على أرض الواقع، يجب المبادرة إلى تفعيل الإصلاحات لتدعيم الجماعات المحلية على مستوى تنمية الموارد المالية، وتحقيق استقلالية الوحدات المحلية، وعصرنة الوظيفة المحلية وتكوين المنتخبين وتأهيلهم للقيام بالمسؤوليات الملقاة على عاتقهم. إن ضعف وقلة الموارد المالية المحلية يؤدي إلى إضعاف مكانة الوحدات الترابية وجعلها في تبعية دائمة للسلطة المركزية، الأمر الذي يؤثر سلبا على مردودية هذه الوحدات، فما هي أبرز العوائق التي تعترض الموارد المالية؟ كذلك فإن تدبير الشأن العام المحلي يتأثر بعقلية مسيريه وبالأسلوب الذي ينهجونه في ذلك، فهل الوسائل البشرية مؤهلة لتفعيل اختصاصات الجماعات المحلية، وقادرة على مواكبة متغيرات تدبير الشأن العام المحلي؟ محدودية الموارد المالية المحلية لقد عرف تدبير الشأن المحلي تحولات نوعية مهمة، وذلك لمواكبة التطورات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كما أن دور الجماعات المحلية لم يعد ينحصر في الصيغة التسييرية (تقديم الوثائق والخدمات)، بل تطور ليشمل المهام الاستثمارية والتدخلات الاقتصادية، لكون الجماعات أصبحت تشكل فاعلا اقتصاديا محليا، ومؤثرا في مسلسل التنمية الوطنية. غير أن الموارد المالية للجماعات المحلية تبقى دون المستوى المطلوب، مما يحول دون ممارسة غالبية المجالس المحلية للصلاحيات والاختصاصات المخولة لها بمقتضى النصوص القانونية المنظمة لها. وتستفيد الجماعات المحلية من مصادر التمويل الذاتي الذي يعتبر أحد العناصر الأساسية، حيث تعتمد عليه هذه الجماعات خلال أنشطتها المالية، سواء لتغطية نفقات التسيير أو نفقات التجهيز، كما تستفيد أيضا من التمويل الاستثنائي ( ). واستنادا إلى مخططات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فإن الموارد المالية للجماعات المحلية عرفت تزايدا ملموسا خلال الفترة الممتدة ما بين 1988 و1997، حيث انتقلت من 5.945 إلى 15.729 مليون درهم ( )، كما بلغ حجم موارد الجماعات المحلية خلال الفترة الممتدة ما بين 1999 و2000 قيمة 15 مليار درهم ( ). ولقد ساهم في هذا التطور إصلاح النظام الجبائي لسنة 1989، بتحويل 30 في المائة من الضريبة على القيمة المضافة، وحصيلتي الضريبة المهنية، والضريبة الحضرية، وجزء من الضريبة العامة على الدخل ( )، إضافة إلى ذلك هناك موارد أخرى تزود مداخيل الجماعات المحلية، ويتعلق الأمر بأملاك الجماعات المحلية. أستاذ العلوم السياسية والقانون الدستوري بجامعة الحسن الأول-كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بسطات