محمد زيان نقيب المحامين السابق والأمين العام للحزب الليبرالي المغربي والسياسي المثير للجدل يحكي في اعترافاته ل«المساء» عن طفولته وكيف كان مسيحيا يحمل اسم فيكتور مارتين ليصبح فيما بعد شيوعيا ملحدا، قبل أن يهتدي إلى الإسلام. في هذه الحلقات يتحدث زيان لأول مرة عن أسرار وخبايا «ضياع» موريتانيا من المغرب، وعن معتقل تازمامارت وعلاقة الحسن الثاني به وحكاية استقالته من الوزارة واتهامه بتهريب المخدرات وكيف كانت الدولة «تصنع» الأحزاب والزعماء. - في سنة 1956 أنهى والدك دراستك بالبعثة الإسبانية في طنجة وسجلك في«المسيد»، ثم في المدارس الوطنية. كيف عشت هذا الانتقال؟ كان الأمر صعبا علي، تأثرت له كثيرا، فأنا لم أكن أعرف العقلية المغربية. كما أن لغتي العربية كانت ضعيفة، وكنت محط سخرية باقي الأطفال بالمدرسة، وقد عشت أزمة نفسية حقيقية. - ألم تعارض والدتك هذا الأمر؟ نعم عارضت، لكنها لم تكن لتغير من الوضع شيئا. لكن وسط صعوبة ذلك الوضع الجديد، بدأت أجد مواساتي في أبناء حينا الذين كانوا يرتادون مدرسة «عين قطيوط»، التي سجلني والدي بها، وبدأت أحس بأنني واحد منهم (ولد الدرب) وقد احتضنوني واعتبروا مجيئي إلى تلك المدرسة انتصارا لهم. - هل مازلت تذكر أول فقيه تتلمذت على يديه في «المسيد»؟ الفقيه محمد أنكاي والفقيه اللمتوني.لا زلت أذكرهما جيدا. - وكيف تعايشت مع الانتقال من مدرسة إسبانية عصرية إلى»المسيد» حيث الفقيه يضرب الأطفال كي يتعلموا؟ لم أكن أملك الخيار. أذكر مرة أنني ارتكبت خطأ في قراءة القرآن، وكان الفقيه الدرقاوي آنذاك يأمر بأن يمد المخطئ يده لكل زملائه كي يضربوه واحدا واحدا.وقد لاحظت حينها أن زملائي كانوا يضربونني دون شفقة، مع أننا كنا نلعب معا في الحي. - وما قصة تسجيلك في سجلات الحالة المدنية بقنصلية الجمهورية الإسبانية التابعة لسفارة الجمهوريين بالمكسيك؟ هذه مسألة لا يعرفها إلا القليلون. فالملك الحسن الثاني كان له قنصل للجمهورية الإسبانية في الدارالبيضاء، وهناك معطى آخر يخفى على العديد من المتتبعين، هو أن طليعة الجمهوريين الإسبان كانوا منفيين في طنجة، ومنهم القائد كالفاو، الذي قام بأول عملية اختطاف وتحويل مسار طائرة في العالم. وهي طائرة كانت تنتقل بين طنجة والعاصمة البرتغالية لشبونة. في الستينيات كان كالفاو مقيما في طنجة، وكان هذا الثائر البرتغالي عضوا في تنسيقية اسمها «Directório Revolucionário Ibérico de Libertação» ( التنسيقية الثورية الإيبيرية للتحرير) وهي تنسيقية كانت تعمل من أجل تحرير شبه الجزيرة الإيبيرية، التي تضم البرتغال وإسبانيا، من ديكتاتورية سالازار وفرانكو. ومن العمليات التي قامت بها هذه التنسيقية استيلاؤها على طائرة من الخطوط الجوية البرتغالية، وهي الطائرة التي كانت تقوم برحلة بين طنجة ولشبونة.وحينما كانوا على وشك الهبوط بها في لشبونة بدؤوا يرمون الملايين من المنشورات الداعية إلى الثورة، ثم عادوا بالطائرة إلى طنجة. الحسن الثاني قام آنذاك بحماية القائد كالفاو، بل أكثر من ذلك، فالجنرال بايو، الذي قام بتدريب فيديل كاسترو ومجموعته، التي كان ضمنها تشي غيفارا، الذي يتغنى به اليسار المغربي بأكمله، كان يعيش في طنجة، وقليلون يعلمون ذلك.كما أن القليلين يعرفون علاقة هذا الجنرال بالجمهوريين الإسبان الذين كانوا يتخذون من طنجة ملاذا لهم. وقد كان الحسن الثاني يعلم بوجود هؤلاء، ولم يمسسهم بضرر، بل على العكس كان يؤمن لهم الحماية. - احك لنا عن قصة تسجيلك في سفارة المكسيك قصة تسجيلي في قنصلية الجمهورية الإسبانية، التابعة لسفارة الجمهوريين بالمكسيك، أتذكر أنه في سنة 1963 حينما توفيت والدتي، عدت من جينيف وذهبت إلى قنصل الجمهورية الإسبانية دون أنطونيو موري، الذي كان متزوجا بمغربية، وكان كما قلت قنصلا معترفا به، وفي منزله كانت الخزانة الإسبانية والحالة المدنية، وقد كان هو صلة الوصل بين الدارالبيضاء وبين قنصلية الجمهورية الإسبانية ،التي لم تعترف قط بالجنرال فرانكو. إذ أن سفارة إسبانيا في المكسيك آنذاك كانت سفارة جمهورية، وكذلك بقيت إلى أن عادت الديمقراطية إلى إسبانيا بعد وفاة فرانكو. حينها فقط سلمت المكسيك السفارة إلى الدولة الإسبانية.كما أن القليلين يعرفون أن أول وآخر باخرة سيقع اختطافها في أعالي البحار هي سانتا ماريا، التي تم تنظيم اختطافها بداية الستينيات، وقد كانت تربط بين أمريكا اللاتينية والولاياتالمتحدة. وقد تم اختطافها لإثارة انتباه الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي كانت متشبثة بالشرعية الدولية، أي أن الولاياتالمتحدة ظلت مدة طويلة لا تعترف بنظام فرانكو إلى أن قام المغرب بطرد القواعد العسكرية الأمريكية. - تقصد تحويل القواعد الأمريكية من المغرب إلى إسبانيا؟ نعم. وهذا أكبر خطأ ارتكب سنة 1961 و1962. لقد كانت تلك كارثة بالنسبة إلى المغرب، لأن ميزانيات القواعد العسكرية الأمريكية، أولا، كانت أهم من ميزانية المملكة المغربية. وثانيا، الشيء الذي ساهم بقوة في تنمية إسبانيا وجعل الاستثمارات توجه إليها هو لجوء القواعد العسكرية إلى الاستقرار فوق أراضيها بعد أن تم إجلاؤها من المغرب. وبالتالي أصبحت الولاياتالمتحدة تستثمر أموالها في إسبانيا. الغريب أنه كلما كانت إسبانيا تتقوى اقتصاديا كان المغرب بالمقابل يضعف. وحينما أتذكر والدي وهو يتوسط أحد البرتغاليين أو الإسبان كي يحصلوا على التأشيرة ويأتوا للعمل بالمغرب، وأرى الآن أشخاصا يطلبون مساعدتي للحصول على تأشيرة للذهاب فقط كسياح لإسبانيا، أحس بغصة في داخلي تجعلني أتساءل: ما الذي حدث كي نتراجع على هذا النحو؟. - تحدثت عن تنظيم اختطاف الباخرة الذي تم في طنجة. هل كان الحسن الثاني يعلم بهذا وسمح بحدوثه؟ تلك كانت حربا مشروعة ضد الديكتاتورية، كانت الأممالمتحدة تسمح بها للشعوب من أجل تحقيق استقلالها وإجلاء الأنظمة الديكتاتورية. الحسن الثاني عاش تلك المرحلة واستوعب تلك المبادئ، وكان يعلم أنه إذا مس بالجمهوريين آنذاك فكأنه مس بالديمقراطية، في حين كان يريد أن يكون المغرب أول بلد ديمقراطي في المنطقة العربية والإفريقية، وقد نجح بالفعل في تحقيق ذلك في وقت ما، لولا المغامرات والانقلابات التي قام بها «الاتحاديون»حينها، والتي جعلت الحسن الثاني يتوجه نحو الجيش عوض أن يبقى مخلصا للقوى السياسية. - لنعد إلى موضوع تسجيلك بالقنصلية الجمهورية الإسبانية التابعة لسفارة الجمهوريين بالمكسيك؟ بالفعل طلبت من دون أنطونيو موري أن يقوم بتسجيلي في السفارة المكسيكية، لأنه كي أسجل نفسي كانت تلزمني البطاقة، وقد بعث، بصفته قنصلا معتمدا، في طلب الوثائق وقام بإجراءات التسجيل. - ولماذا لم تذهب إلى إسبانيا لتقوم بتسجيل نفسك في السجلات الحكومية؟ لأني لو ذهبت حينها لكنت أخذت بطاقة تابعة لحكم فرانكو، وليس بطاقة هوية تابعة للجمهورية الإسبانية، وأنا لم أكن لأقبل بذلك، فأمي عاشت حياتها ترفض الاعتراف بشرعية فرانكو، فكيف لي إذن أن أقبل بذلك؟. - كم كان عمرك حينما انتقلتم للعيش في طنجة؟ كنت في سن الثانية عشر تقريبا. - ومتى تم ختانك وتحولت إلى مسلم؟ كنت مختنا منذ صغري، لأننا كنا نقوم بزيارات منتظمة إلى المغرب. ولا زلت أتذكر مراسيم ختاني في ضريح سيدي بوعراقية بطنجة، فقد كنت واعيا آنذاك، وأتذكر»الحجام»، وهو يقول لي: انظر إلى الطائر في الأعلى، محاولا إلهائي، بينما هو يقوم بختاني. وأتذكر كذلك أنهم أركبوني على ظهر بغلة، بينما كانت أمي تصرخ، مستنكرة ما حدث لأنها كانت ترى في ذلك تصرفا وحشيا. - كيف كانت العلاقة بين والدتك وبين جدتك من جهة الأب؟ جدتي كانت امرأة طيبة جدا. كانت من أصول جبلية من منطقة الملاليين من نواحي تطوان. كانت حنونة جدا، وقد علمتنا كيف نتعامل بلطف مع الآخرين.