محاربة الفساد واقتصاد الريع التزام سياسي يتناغم مع التنزيل الفعلي والتطبيق السليم لمقتضيات الدستور الجديد، الذي ينص على مبدأ المساواة بين جميع المواطنين في المغانم والمغارم. لكن يبدو أن هذا المطمح لا زال بعيد المنال، على الأقل في الظروف الراهنة، نظرا إلى مجموعة من الإكراهات البنيوية التي يستعصي، من الناحية العملية، تجاوزها بشكل سلس، لأن جيوب المقاومة واللوبيات الضاغطة، التي تجذرت بقوة وهيمنت على الاقتصاد والإدارة العمومية، لا يمكن أن تسلم بأن رياح التغيير قادمة لا محالة وأن زمن الاغتناء المفرط والريع ونهب خيرات البلاد قد ولى إلى بدون رجعة، فالبعوض الذي يتفنن ويتقن امتصاص الدماء لا يمكن أن يقلع عن هذه العادة الخبيثة، لأنه يعتبرها حقا مكتسبا ومشروعا بكل المقاييس. نشر لائحة المحظوظين المستفيدين من رخص النقل (الكريمات) والصيد في أعالي البحار وهواة استنزاف المقالع وشفط الرمال، يمكن تناوله من عدة مداخل: المدخل الأول يكمن في الأسباب التاريخية، حيث كان الصراع في فترة السبعينيات على أشده حول الحكم بين الملك الراحل الحسن الثاني وقوى اليسار. ولخلق زبناء سياسيين جدد وضمان ولائهم وإضعاف المعارضة، كان الحل الأنسب المهتدى إليه آنذاك هو سياسة العصا والجزرة، التهديد والإغراء، في إطار تكريم المخزن لخدامه ورعاياه الأوفياء المنعم عليهم بالإكراميات والحوافز المالية. المدخل الثاني: تحييد مؤسسة الجيش وإبعادها وتشجيعها على الانخراط في عالم المال والأعمال مقابل التزامها داخل ثكناتها العسكرية، لذلك يلاحظ أن مجموعة من القادة العسكريين تحولوا إلى رجال أعمال يستثمرون في العقار والضيعات الفلاحية ورخص النقل والصيد في أعالي البحار. وكان الملك الحسن الثاني يردد دائما أمام قادة الجيش: «راكموا الأموال وابتعدوا عن السياسة». المدخل الثالث: تحريم الاستفادة من امتيازات الدولة لا يمكن أخذه على إطلاقه، فهناك شرائح واسعة من المجتمع تستحق مثل هذه الالتفاتة الإنسانية، خاصة الفنانين الفقراء الذين لا يتمتعون بالتغطية الصحية والرياضيين الذين لا يملكون شيئا، فمن واجب الدولة أن تعتني بهم وتواكبهم اجتماعيا لأنهم قدموا خدمات جليلة إلى بلدهم. ومن باب الاستحقاق عدم التنكر لهم، وينبغي تنزيلهم منزلة مكفولي الأمة نظرا إلى عسرهم وقلة إمكانياتهم. لكن طبقات الميسورين وأصحاب الثروات الذين يزاحمون، من فرط جشعهم، المحتاجين والفقراء يجب تجريدهم من هاته العطايا بأثر رجعي لأن قبولهم الهبات والرخص دون حاجة إليها اعتداء مادي على ملك الغير وإثراء بدون سبب وسطو ممنهج على مقدرات الدولة وجرائم اقتصادية تقتضي المتابعة القضائية، خاصة وأن بعض المستفيدين لا يوظفون هاته الرخص لأنهم في غنى عنها. ويعتبر ازدياد العطالة واتساع عتبة الفقر وانتشار أحزمة البؤس وأحياء الصفيح قرينة حاسمة وحجة دامغة على أن الثروة الوطنية لا توزع بشكل عادل وأن الأقلية التي ترفل في النعيم تلتهم حقوق الأغلبية. ومن مكر الصدف أن اللوائح المنشورة تحمل في طياتها أسماء بعض رجال الدين الذين يدعون التقوى والورع ولطالما أصدروا فتاوى غريبة ما أنزل الله بها من سلطان، لا يقبلها العقل ولا المنطق ولا الدين، من قبيل مضاجعة الأموات وتحويل المقابر التي لها حرمتها إلى وكر للاحتفالية الجنسية، وأيضا نفي صفة الشهيد عن المناضل المهدي بن بركة الذي أخذ غدرا واختلفت الروايات حول طريقة تصفيته، فهناك من يروي أن التصفية تمت بتذويب جسده في حمض الأسيد، وهناك من يقول إنها تمت برميه من الطائرة في مياه البحر الإقليمية، المشتركة بين المغرب وإسبانيا. يثير نشر قائمة المستفيدين من الريع مجموعة من علامات الاستفهام، فالرافضون لثقافة الفضح سيقاومون بشدة نشر أسمائهم في البوابات الإلكترونية والصحف الوطنية لأنهم الخاسر الأكبر من هاته العملية، ومن واجب الإدارة المغربية، خاصة في الظروف الراهنة التي يتم فيها الانتقال من العتمة والاشتغال في الظلام إلى نور الشفافية والوضوح، تفجير العلب والصناديق السوداء لكي يطلع عليها المواطنون وتحويل المرافق والمؤسسات العمومية من أجهزة دمساء إلى بيوت من زجاج تناغما مع دولة الحق والقانون وترسيخا لثقافة المواطنة الحقة وتنزيلا لمقتضيات الدستور الجديد. إن الإثراء بلا سبب والتربح غير المشروع واحتكار الثروات تخريب للاقتصاد الوطني واعتداء سافر على حقوق الفئات المحرومة. لقد تعامل الشعب المغربي بذكاء ونضج مع متغيرات المحيط الإقليمي وصبر كثيرا على «الاغتيالات» المتلاحقة التي تستهدف رزقه وقوته اليومي وكرامته وعانى ولازال يعاني ويلات الفواتير المتضخمة لشركات التدبير المفوض وغلاء المعيشة وارتفاع الأسعار، لكن أن تستنزف خيراته وينعم بها من لا يستحقها فهذا يضعنا أمام اختيارين: إما المقامرة بمستقبل المغرب والاكتفاء بنشر اللوائح دون اتخاذ التدابير اللازمة لإعادة توزيع الثروة بشكل عادل وفق دفاتر تحملات مدققة تراعي التنافسية والاستحقاق وتكافؤ الفرص، وإما تجريد هؤلاء من الغنائم والامتيازات وإعطاء الأسبقية في الاستفادة منها للمعطلين حاملي الشهادات العليا وخريجي الجامعات لتفادي إثقال ميزانية الدولة بمناصب مالية جديدة هي في غنى عنها. تأسيسا على ما سبق فاقتصاد الريع عبر التحقيب التاريخي كان يوظف ولا يزال في تدجين النخب وخلق أبواق جديدة تطبل للوضع القائم وتزكي الأطروحات الرسمية على المستوى الاقتصادي والسياسي والثقافي والاجتماعي، وبهذا المعنى يكون بمثابة رشوة سياسية لشراء المواقف والانخراط في مؤامرة الصمت والسكوت على الفساد المستشري في مختلف شرايين وأركان الدولة. ومن هذا المنطلق، تبقى المعركة الدائرة الآن بين تيارين: تيار الفساد الذي لا إصلاح فيه، وتيار الإصلاح الذي لا فساد فيه. ولتحقيق هذا المبتغى ينبغي البدء بالإصلاحات القانونية الكبرى من خلال: الاعتراف بأن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، لذا ينبغي تجريد العمال والولاة من الصلاحيات الواسعة التي يتمتعون بها والتي تجعل البعض منهم يتغول في إذلال المواطنين وأعضاء الحكومة، فحينما يتجرأ عامل إقليم سيدي بنور على نعت وزير الدولة بأقبح النعوت وبنوع من التجريح والمس بالكرامة الإنسانية والاحتقار، فهذه حجة دامغة على أعطاب وتخلف المنظومة القانونية للإدارة الترابية ببلادنا، وحينما يقرر عامل وزان إيقاف الأشغال بجميع التجزئات العقارية المرخصة (كتجزئة الزيتونة) في تحد سافر لقوانين التعمير وخلق العراقيل للمنعشين العقاريين عن طريق رفع دعاوى كيدية والسطو على اختصاصات رئيس المجلس الجماعي الذي يبقى الجهة الوحيدة المختصة قانونيا بإصدار رخص البناء وقرارات توقيف الأشغال مع مراعاة الرأي المطابق للوكالة الحضرية، أفلا تفسر هذه الممارسات بأن المسؤول الإقليمي يعتبر نفسه سيدا مطلقا في دائرة نفوذه التي يعتبرها ضيعة خاصة، فيما يعتبر المنتخبين الذين يحظون بشرعية تمثيل المواطنين عن طريق الاقتراع العام مجرد عبيد يأتمرون بأوامره؟ إذا كان عامل إقليم سيدي بنور قد تجرأ وأهان عضوا من أعضاء الحكومة فكيف سيكون الأمر يا ترى مع المواطن البسيط ؟ سياسة التركيع والإذلال والتسلط ثقافة بائدة وثنائية تمثيل السلطة والساكنة أثبتت فشلها والتنزيل الديمقراطي للدستور وفلسفة الجهوية المتقدمة تقتضي أن المسؤول الأول في الجهة أو الإقليم ينبغي أن ينبثق من صناديق الاقتراع انسجاما مع مقتضى ربط المسؤولية بالمحاسبة وليس موظفا ساميا معينا بقرار إداري. مناهضة التغيير خصلة متأصلة في السلوك البشري، وخاصة شريحة ضعاف النفوس، فحينما يتم المساس بمصالحهم غير المشروعة يعلنون الحرب وينخرطون في جبهة الرفض والممانعة ويحدثون الضوضاء والضجيج تحت شعار المغرب لنا لا لغيرنا.