يحاول الكاتب والناشر إيريك هازان، بمعية المخرج «المغضوب عليه» إسرائيليا، إيال سيفان، في كتاب «دولة مشتركة.. ما بين نهر الأردن والبحر»، طرح سيناريو جديد أمام الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، عكس سيناريو «التقسيم» الذي تسعى عدة أطراف دولية إلى تسويقه كحل وحيد للأزمة، في حين يرى الكاتبان أن الحل الأمثل هو «التقاسم».. لأنه إذا كان التقسيم يدل على القطيعة والفصل، فإن التقاسم يعني المشاركة في نفس الأشياء، سواء تعلق الأمر بوجبة أو بسكن أو بفضاء. مرة أخرى، ذكرتنا الأحداث الأخيرة، على خلفية التصعيد بين إسرائيل وحماس، بأنه من المُحتمَل أن يبقى هذا المجال البؤرة الساخنة بامتياز في العالم وأن سيناريوهات السلام التي تعاقبت منذ عقود، فشلت جميعها في إرضاء رغبات الأطراف المتصارعة، وبالأخص في تلبية المطالب والحقوق المهضومة للشعب الفلسطيني. ومن السيناريوهات الجديدة التي طرحت على بساط النقاش ذاك الذي يطالب بحل التقسيم، فيما يطرح سيناريو آخر حل التقاسم، وهو الأطروحة التي يدافع عنها هذا الكتاب «Partage et non partition». إيريك هازان كاتب وناشر، يشرف على منشورات لافابريك. إيال سيفان مخرج إسرائيلي مغضوب عليه إسرائيليا. فهو أستاذ لمادة السينما في لندن من بين أفلامه التي وقّعها مع ميشال خليفية «الطريق رقم 181، شذرات من رحلة إلى فلسطين -إسرائيل»، و«حيفا: ماكينة البرتقالة» (2009). تنتمي أفلامه إلى السينما المناضلة والملتزمة، الساعية إلى هدم الحواجز بين الفلسطينيين والإسرائيليين بمنأى عن أي نزعة وطنية أو دينية، ولا يتردد سيفان في انتقاد التوجه التبشيري للدولة العبرية. بين التقاسم والتقسيم إذا كان لكلمتي «تقاسم» (partage) و«تقسيم» (partition) نفس المصدر اللغوي «part»، فإن لكل مفهوم دلالته الخاصة. فالتقسيم يدل على القطيعة، كما يشير إلى الفصل. أما التقاسم فيعني المشاركة في نفس الأشياء، سواء تعلق الأمر بوجبة أو بسكن أو بفضاء. وبخصوص ما يعرف ب«الصراع الإسرائيلي -الفلسطيني» فإن الإجماع السائد يتفق على حل يمر عبر تقسيم للأراضي إلى دولتين مستقلتين ومعزولتين بعضهما عن بعض. وثمة تصريحات ومواقف عديدة تصب في هذا الاتجاه، مثل ما جاء على لسان باراك أوباما، خلال زيارته مصر وإلقائه خطابَ القاهرة في 4 يونيو 2009، والذي جاء فيه: «الحل الوحيد الذي يتوافق ورغبات الطرفين هو إنشاء دولة لكل شعب. إنها مصلحة إسرائيل، مصلحة الفلسطينيين، مصلحة الولاياتالمتحدة والعالم أجمع». ولم يكن باراك أوباما الوحيدَ الذي يحمل هذه القناعة ويرغب في الدفاع فيها، إذ قاسمته نفسَ الفكرة كاترين أشتون، وزيرة الشؤون الخارجية للمجموعة الأوربية. فقد صرحت، في 29 غشت 2011 في القدس: «جئت إلى إسرائيل لتبادل الرأي في الخطوات التي أحرزتها مفاوضات السلام، فالتحولات التي عرفتها البلدان المجاورة لإسرائيل، في اعتقادي، تجعل من الضروري -وأكثر من أي وقت مضى- الوصول إلى حل يفسح المجال للشعبين، الإسرائيلي والفلسطيني للعيش جنبا إلى جنب.. حل يضمن تعايشا لدولتين في إطار الأمن والسلام». لدى الطرفين المعنيين، فإن الحل القاضي بإنشاء دولتين هو الفكرة السائدة والمتداولة، إذ بعد عشرة أيام على خطاب أوباما في القاهرة، صرح بنيامين نتنياهو، في 14 يونيو 2009، في جامعة بار -إيلان: «يقوم تصوري للسلام على وجود شعبين مستقلين يعيشان جنبا إلى جنب في هذا المجال الصغير، شعبان تحذوهما رغبة إقامة علاقات جيدة واحترام متبادل (...). نحن على استعداد لقبول حل حقيقي للسلام، مع قيام دولة فلسطينية خالية من السلاح، إلى جانب الدولة العبرية». لم يعمل نتنياهو سوى على إعادة طرح فكرة سبق لأرييل شارون، أحد رموز الفكر العسكري -الأمني لإسرائيل، أن طرحها، وأشار إلى أن فكرة دولتين تقتضي الكثير من التضحيات وأنه على إسرائيل الاستعداد لقبول هذه الفكرة. فللفلسطينيين الحق في العيش بكل حرية وبكرامة في دولة مستقلة وفي علاقات حسن الجوار معنا، لفائدة المصلحة الكبرى لشعبينا». وعلى النقيض من «معسكر الصقور»، الذي يمثله نتنياهو ومن قبله شارون، فإن تصريحات شخصيات يسارية محسوبة على «معسكر السلام» تصب في هذا الاتجاه. فقد صرح أوري أفنيري، في عام 1980، بأن «قيام دولة فلسطينية يمكنه أن يخدم اليهود». من الجانب الفلسطيني، فإن حل الدولتين (دولة فلسطينية -دولة يهودية) شكّلت، منذ 1988، الخط الرسمي لمنظمة تحرير فلسطين، إذ تم قبولها من طرف ياسر عرفات في تونس، وتبقى الحجر الأساس لسياسة السلطة الفلسطينية. فقد كشفت قناة «الجزيرة» وموقع «ويكليكس» مؤخرا (في شهر يناير 2011)، وثائق تشير إلى أن السلطة الفلسطينية مستعدة لكل التنازلات (السماح بالمطالبة بالقدس، القبول بالأمر الواقع في ما يخص المستوطنات والتخلي عن الحق في العودة) مقابل قيام دولة فلسطينية، لا يهم كيف ستكون تقاسيمها الجغرافية.. لكنْ، أي موقف لمنظمة حماس، التي لا يبدو أنها لا تساوم على فلسطين؟ يذكّر المؤلفان بالمقابلة التي خص بها خالد مشعل صحيفة «نيويورك تايمز» في 4 ماي 2009، والتي أشار فيها إلى أن المنظمة توافق على قيام دولة فلسطينية ضمن حدود 1967، والقائمة على هدنة طويلة المدى، مما يعني إدراج القدسالشرقية، استئصال المستوطنات وعودة اللاجئين. وفي تصريحه للصحيفة ذاتها، قال خالد مشعل: «ألتزم أمام الإدارة الأمريكية والرأي العام بأننا سنكون طرفا في هذا الحل». وفي 5 ماي 2011، أثناء التوقيع على اتفاقيات المصالحة بين الأطراف الفلسطينية، صرح مشعل بأنه على الفلسطينيين أن يوحّدوا صفوفهم لضمان قيام سلطة فلسطينية واحدة، بنية واحدة لتحقيق الهدف الوطني المُشترَك، ألا وهو قيام دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة، دون وجود أي مستوطن إسرائيلي ودون التخلي عن أي شبر من الأرض ومع عودة اللاجئين.. ولما سئل، في 23 دجنبر 2011، عن الخلافات بين حماس وفتح، أجاب بأن «بين الطرفين تباينات سياسية، لكنْ تبقى أرضيتنا مشترَكة حول قيام دولة داخل حدود 1967». في عام 1937، اقترح رسميا تقسيم فلسطين، وكانت آنذاك تحت الانتداب البريطاني. وقد أعدّت لجنة «بيل» تقريرا في هذا الاتجاه إثر الانتفاضة العربية لعام 1936. بعد 76 عاما على هذا القرار أو المقترح القاضي بقيام دولتين، الأولى فلسطينية والثانية يهودية، ما يزال الوضع على ما هو عليه.. بماذا يمكن تفسير هذا التناقض أو المفارقة؟ لماذا لم يتحقق هذا المقترح، رغم الإجماع الحاصل من حوله؟ رغم الاجتماعات، التصريحات الرسمية، الجولات المكوكية الدبلوماسية، والمعاهدات، بدءا من اتفاقية أوسلو لعام 1993 والمصافحة في البيت الأبيض بين رابين وعرفات، والتي وقعت ولادة «مسلسل عملية السلام»، إلى غاية طلب الاعتراف بقيام دولة فلسطينية، وهو الطلب الذي أعربت عنه السلطة الفلسطينية داخل أروقة الأممالمتحدة عام 2011، مرت 18 عاما من الجهود، لكنْ دون أي نتيجة، ما عدا استمرار سياسة الاستيطان وسياسة التقسيم، تحت غطاء مسلسل السلام نفسه. بل وحتى النقاط المتنازَع بشأنها وقع من حولها إجماع، مثل وضع القدس والأماكن المقدسة، مصير المستعمرات في الضفة، حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، اقتسام الموارد المائية، وأخيرا، ترسيم حدود الدولتين. وإذا أجمع الطرفان على أن هذه النقط تشكل عقبات في وجه إيجاد حل، فلماذا لم تسفر التصريحات والخطوات والمبادرات عن حل عملي؟.. بلاغة السلام الأطروحة التي يقدمها المؤلفان، والتي كانت موضوعا لفيلم سينمائي أنجزه أيال سيفان، هي أن تقسيم فلسطين التاريخية إلى دولتين ليس حلا، بل مجرد «خطاب».. خطاب حرب، مغلف ببلاغة سلام، يمكن أن تبرر كل الممارسات التي ارتُكِبت أو التي تم ارتكابها. إن هذا الخطاب، المنفصل عن الواقع يريح الجميع، باستثناء الشعب الفلسطيني، يشير إيريك هازان وإيال سيفان. وللخطاب هذا ميزة فرض إثبات الأمر الواقع، والمتمثل في الزحف اليومي للاستيطان وفي الممارسات التمييزية العنصرية تجاه من ليسوا يهودا في كل المجال الذي تسيطر عليه الحكومة الإسرائيلية. لا يمكن إبقاء الوضع على ما هو عليه أن يستمر، لأن هناك حل «الدولتين»، وهذا ما تكرره باستمرار وسائل الإعلام. إن لخطاب التقسيم ميزة إدامة ما هو مؤقت، وهو الذي يسند السياسة الإسرائيلية ويجد ترجمته في غياب أي ترسيم للحدود في الزمان والمكان. لقد شدد بنغوريون على فكرة عدم ترسيم إسرائيل حدودها، بمعنى أنه يجب أن تبقى حدودا فضفاضة. إن خطاب الدولتين، وهو خطاب يلائم الجميع، لا يفضي، أبدا، إلى حل حقيقي، ذلك أن تقسيم فلسطين، وهذه هي الأطروحة التي يقوم عليها الكتاب، غير ممكن، وبالتالي، يقترح المؤلفان التخلي عن هذا الخطاب وتعويض فكرة التقسيم بفكرة التشارك والاقتسام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. اقتسام دولة مشتركة تغطي المجال الواقع بين البحر ونهر الأردن، المعروفة بأرض فلسطين. ويعتبر الطرفان أن التقاسم، عوض أن يكون أو يمثل «يوتوبيا»، يبقى الحل الوحيد الواقعي والمعمول به، لأنه يوافق الحقيقة والوضع الحالي للبلد. يبلغ عدد سكان فلسطين الكبرى 11 مليون نسمة، من بينهم 5.8 ملايين من اليهود و5.2 من غير اليهود، وبالأخص العرب الفلسطينيين. وبغض النظر عن مناطق محدودة، حيث هناك نوع من التجانس بين السكان، مثل تل أبيب ونواحيها أو قطاع غزة، فإن اليهود والعرب الفلسطينيين مختلطون حتى وإن تباينت المناطق في ما بينها. فالتقسيم، كيفما كانت «تقاسيمه»، لا يمكنه أن يسفر عن قيام دولة متجانسة دينيا أو إثنيا. فلكي يتم ذلك، يجب القيام بنقل للسكان، وهو ما يقترحه أفيغدور ليبرمان، وزير الشؤون الخارجية بخصوص المواطنين العرب الفلسطينيين. ويهُمّ التخالط، أيضا، تقاسم المياه، حتى وإن كان توزيعها غير متكافئ، العملة، قنوات المواصلات وتوزيع الطاقة، بل وحتى سجن غزة، الذي تعتبره السلطات الإسرائيلية «كيانا معاديا»، والذي ما يزال يتغذى، رغم الحصار، من الطاقة الكهربائية الإسرائيلية، مما يتيح للإسرائيليين قطع التيار الكهربائي على هواهم ووفق رغبتهم..
واقع الدولة الواحدة حسب المؤلفين، ثمة حقيقة على الجميع أن يعترف بها، وهي أنه ليست هناك اليوم سوى دولة واحدة تمارس سلطتها على مجموع الوطن. فجميع الحدود توجد تحت مراقبة الجيش الإسرائيلي وجميع الإدارات تحت هيمنتها، وكذلك هو الحال أيضا في ما يخص التشريع المدني والعسكري. جميع تراخيص الإقامة والتنقل بيد الإسرائيليين، بل إن السلطة الفلسطينية نفسَها خاضعة للحكومة المركزية في تل أبيب، التي تسمح لها بممارسة سلطتها في بعض المناطق. ويتذكر الجميع الفترة التي كانت فيها حكومة أرييل شارون تمنع رئيس السلطة الفلسطينية من مغادرة المقاطعة.. هناك، إذن، دولة واحدة على كل أرض فلسطين. ما يسمى «الأراضي المحتلة» هي، في الحقيقة، منطقة من هذه الدولة التي يطبق على أغلبية سكانها من غير اليهود الحكمُ العسكري. هذه الدولة الوحيدة ليست دولة مشتركة، لأنها تعرف بنفسها بصفتها دولة اليهود وليس دولة جميع المواطنين.. ليس التقسيم هو الجواب عن هذه المعضلة، بل يكمن الحل في تحويل الدولة الحالية إلى دولة مشتركة لكل المواطنين، كمواطنين أحرار ومتساوين أمام القانون. على أي، ورغم الخراب الذي نتج عن سياسة التقسيم، المتَّبَعة منذ 20 عاما باسم «مسلسل السلام»، هناك بذور لدولة مشتركة: النضال ضد «جدار العار»، النضالات السياسية التي تلتقي فيها جنبا إلى جنبا الشبيبة اليهودية والعربية الفلسطينية، العلاقات بين التجار التي ظلت، دائما، مستمرة، بل وحتى التعاون بين المجرمين، سواء تعلق الأمر بلصوص السيارات أو بالمتاجرين في المخدرات، الزواج المختلط بين اليهود والعرب... إلخ. في المدن المختلطة، مثل حيفا، عكا، الناصرة، اللد أو القدس الكبرى، في المراكز المختلطة، المستشفيات أو في الفضاءات العمومية، لم تتوقف العلاقات بين الشعبيين. وإذا كان كتاب عاموس عوز، المدافع عن حل الدولتين، يحمل عنوان «ساعدونا على الطلاق»، فذلكك يعني أن هناك بين اليهود والعرب شكلا من أشكال «الزواج»، حتى وإن كان زواجا إجباريا. وقد تكون الدولة المشتركة تجسيدا لهذه الحقيقة..