في إطار مواكبتها النقاش الوطني الذي يهم المسألة التعليمية في المغرب، تفتح «المساء» هذا الركن لكل الكفاءات الوطنية الغيورة على قطاع التربية والتكوين في بلادنا، من باحثين ومختصين وفاعلين اجتماعيين ورجال تربية، للإسهام -كل حسب قناعاته- في دينامية هذا النقاش. وقد رأينا، في الملحق التربوي، أن تكون مسألة بيداغوجيا الإدماج أول الموضوعات التي نقاربها، لما أثارته من تجاذب ونقاش، تربوي، نقابي، إداري وإعلامي، خصوصا النقاش الذي ظهر على هامش قرار الوزارة القاضي بإلغاء العمل بهذه البيداغوجيا المثيرة للجدل.. كنا قد كتبنا، ضمن سلسلة نشرتها إحدى الجرائد الوطنية المغربية، في غشت من سنة 2008 -حيث بداية علاقة المغرب مع بيداغوجيا (الإدماج) الفقراء- ما يلي: «نريد المساهمة في نقاش علني حول مصير المغرب وهو يتبنى بيداغوجيا الإدماج، وهو نقاش يهُمُّنا في جوانب كثيرة، منها أنه لدينا إحساس بمواطنة مغربية ممتلئة ومطمئنة لهذا الانتماء الهوياتي متعدد الثقافات والمنفتح على العالمية.. ولذلك فإن طرح خلفيات هذا الموضوع للنقاش بكل وضوح وأمام الملأ هو مساهمة مواطن في طرح مصير مواطنته ومواطنة المغاربة، كبارا وصغارا، للنقاش». لن نقبل، من جهة أولى، أن يُصادَر حقنا في تناول ما سنكون عليه كمواطنين، لأي سبب من الأسباب. ويتمثل ثاني الأسباب في ممارسة حقنا كباحثين ومن باب مساهمتنا في إماطة اللثام عن بعض القضايا التي لا يجب أن تُقبَل ببداهة أو سذاجة. لقد علمتنا دروس العلوم الإنسانية والإبستيمولوجية التسلح بالحذر والمسافة. كما تعلمنا من الفلسفة الشك ولعبة المنظورات وصراع السلط حول السيادة والحقيقة، ولهذه الأسباب كلها لا نتلقى دعوة الانخراط في بيداغوجيا الإدماج دون بحث وتمحيص، وإنما نجد أنفسنا مرغمين على التساؤل عن ماهيتها وحدودها وخلفياتها، حتى نبني معها علاقة جديدة تهُمّنا كمواطنين وباحثين ومدرّسين. وثالث الأسباب يتمثل في دفاعنا الدائم عن الحرية البيداغوجية للمُدرّسين والمُدرّسات، إيمانا منا بأن فكر التعدد البيداغوجي في المدرسة المغربية هو سبيلنا نحو المسؤولية البيداغوجية لمدرسينا ومدرساتنا، ما يتنافي كليا مع التنميط والتحنيط والتوحيد «العسكراتي» للممارسة اليومية لمدرسينا ومدرساتنا. ورابع الأسباب هو أننا لم نأت إلى هذا النقاش من جزيرة تقع في أقاصي الأرض، بل إننا تحملنا ونتحمل مسؤوليات فكرية وعلمية وتدبيرية تمخَّضَ عنها «الكتاب الأبيض»، الخاص بالبرامج والمناهج، وشاركنا في كثير من الملفات والأوراش الخاصة بالتربية والتكوين والتعليم، وذلك أمر معروف للبعيد قبل القريب. وبينما كنا ننتظر أن تتم المساءلة الفكرية والعلمية والوطنية بخصوص ما تحصّلَ وما تراكم، إذا بنا نجد أنفسا نقلب الصفحات بدون تبريرات علمية ولا تشخيصات وطنية ولا مساءلات فكرية ولا اجتراح أسباب سياسية وفكرية وتربوية كافية. فحينما يقال إن الكفايات المُستعرَضة غير صالحة لنا في المغرب، هكذا بانطباع وتسرع ودون بحث ولا دراسة وتشخيصات.. يدفعنا الأمر إلى أن نتساءل قائلين: عمّن مِن المغاربة يصدر هذا الحكم؟ ومَن مِن المغاربة أنجز بحثا في هذا المجال واقترح تعديلات أو تطويرا للمنهاج المغربي بناء على نقد للكفايات المُستعرَضة؟.. ليسمح لنا جميع الباحثين والمهتمين بالقول إن من روج ويروج لهذا الكلام منذ البدء كانوا هم «الغزافياويون» أو المستعدون لذلك، وإنني أجدد الدعوة لهم ولغيرهم ممن انتقدوا «الكتاب الأبيض» أن يقدّموا اجتهاداتهم الفكرية والمعرفية إغناء للمكتبة التربوية المغربية وتطويرا للمنهاج الدراسي المغربي، مستحضرين رهانات وطننا ومستقبله. إذن، لهذه الاعتبارات كان لا بد من تدشين نقاش في العلن، كي تتحدد المسؤوليات، الفكرية والسياسية والإيديولوجية، وبالتالي تتضح الصورة الغامضة ونخرج من النقاشات الدائرة في السير إلى النقاش المسؤول، الذي يحمل توقيع صاحبه: ميلاد المواطن. وأول ما يثار في هذا النقاش: هل بيداغوجيا الإدماج هي من اختيار مسؤول محدد؟ من هو؟ وما هي دواعي اختيارها؟ وكم سيكلفنا تبنيها الآن وفي الآتي؟.. وهل كان تبنيها مرتبطا بتقرير المجلس الأعلى للتعليم، الصادر في سنة 2008؟ وما هي الخلفيات المعرفية والسياسية والإيديولوجية لهذا التقرير؟ وما هي قيمة الدراسات التشخيصية التي انبنى عليها ليخلص إلى تبني التعلمات الأساسية؟ ومن هي الشخصيات الفكرية والثقافية ذات المصداقية العلمية والفكرية والسلطة العلمية التي كانت وراءه... إلخ؟ وهل درس التقرير حال المغرب دراسة علمية أم دراسة تبرر ما سيأتي؟ ولماذا تزامن تقرير المجلس الأعلى مع تلويح كثير من المسؤولين بنهاية عهد الميثاق الوطني للتربية والتكوين أو إرادة إعادة كتابته -إن توفرت الظروف- بشكل آخر؟.. كما يهُمُّنا الوقوف عند الحدود البيداغوجية عند غزافيي رويجرس، منطلقين من أسئلة من قبيل: هل بيداغوجيا الإدماج بيداغوجيا؟ هل هي بيداغوجيا أم ديداكتيك عام؟ هل هي ديداكتيك أم هندسة في التخطيط؟ ما الأسس التي تقوم عليها؟ وكيف تتصور المتعلم والمدرس والمعرفة المدرسية؟... إلخ. ستتيح لنا هذه الأسئلة الفرصة للدفع بهذه القضايا البيداغوجية والتربوية إلى حدودها القصوى، حتى نميز في هذه البيداغوجيا بين ما ينتمي إلى التربية والتعليم والتكوين والبيداغوجيا وبين ما ينتمي إلى مجالات أخرى، كالمجالات الإيديولوجية، الثاوية التلقائية، أو المقنعة، قصدا أو لاشعوريا، أو المجالات المقاولاتية والتكوين المهني. إن المتتبع لعلاقتنا نحن المغاربة ببيداغوجيا الإدماج سيلاحظ أن المنظمة الدولية للفرانكفونية نشرت مؤلفا تحت عنوان «التكوين من أجل تغيير المدرسة»، وهو كتاب جماعي نجد من بين مؤلفيه غرافيي رويجرس، لكنه عُرِض، في الوقت ذاته، كمخطوط قبل طبعه على من يسميهم الكتاب الخبراء في علوم التربية، التابعين ل«OIF» والأشخاص الموارد لنفس المؤسسة. يوضح هذا المؤلف الروابط بين غزافيي والفرانكفونية، حيث تمت الإشارة منذ بداية الكتاب إلى الإعلان عن المشروع العام للفرانكفونية، فهو يرى أنه «منذ خمس سنوات والمنظمة (يعني المنطمة الدولية للفرانكفونية) تطور قطبا في علوم التربية لدعم الدول الأعضاء في المنظمة، من خلال مشروع التربية للجميع والمساهمة في تقويم سياساتها التربوية، فتقرر في رأي الدول الأعضاء في المنظمة الفرانكفونية أن يركز هذا القطب المختص في علوم التربية على تحسين المقررات المدرسية وفق المقاربة بالكفايات». أستاذ باحث في علوم التربية د. الحسن اللحية