بين 15 مارس، تاريخ الانطلاقة الأولى للانتفاضة السورية في دمشق العاصمة، و18 مارس، تاريخ انطلاقتها الكبرى ومحطتها النوعية الفاصلة في درعا وسائر حوران، ثمة نهار 12 مارس الذي يصادف الذكرى الثامنة لانتفاضة أسبق، شهدتها مدينة القامشلي قبل أن تنتقل إلى مدن وبلدات وقرى في محافظة الحسكة، في الشمال الشرقي، ومناطق أخرى من سورية تتميز بأغلبية سكانية كردية. وقبل أن تسقط أولى تماثيل حافظ الأسد، هنا وهناك في أرجاء البلاد خلال أسابيع الانتفاضة، العام المنصرم، كانت ثمة صورة نوعية فاصلة بدورها، تعود إلى ذلك النهار من سنة 2004، لعلها الأولى في طرازها العلني الجسور طيلة 34 سنة من نظام «الحركة التصحيحية»، وتُظهر شابا كرديا يطمس صورة للأسد الأب، مطبوعة على نصب حجري. وقد يجوز القول إن الصدفة وحدها شاءت أن تشهد مدينة القامشلي مواجهات أهلية عنيفة أشعلتها مباراة في كرة القدم بين نادٍ محلي، معظم جمهوره من الأكراد المبتهجين لسقوط طاغية العراق، آنذاك، وناد ضيف قادم من دير الزور، معظم جمهوره ساخط لسقوط بغداد تحت الاحتلال الأمريكي، وربما سقوط صدّام حسين شخصيا لدى البعض. لكن الصدفة لم تكن، البتة، وراء قرار سلطات النظام الأمنية باللجوء على الفور إلى الهراوة الغليظة والرصاص الحي في الواقع، فتصرفت على نحو فاشي همجي، وكأنها تجتاح مدينة حماة مجددا، ممثلة هذه المرّة في القامشلي والحسكة وعامودا وديريك والدرباسية وعين العرب وعفرين، أو كأنها كانت تتقصد إعادة إنتاج دروس مجزرة حماة، بغية تلقينها للمواطنين الأكراد. ولم يكن بالأمر الهين أن تراق دماء الأبرياء دون أن تهيج المشاعر وتُستفز، ويستدعي الفعل ردّ فعل مماثلا، أو أعنف، إذ، أيا كانت الروايات حول مختلف السيناريوهات التي قادت إلى إطلاق شرارة الفتنة واشتعال اللهيب، فإن الحقيقة الإحصائية أشارت إلى أن الغالبية الساحقة من القتلى كانت من المواطنين الكرد. كذلك قالت الحقائق اللاحقة إن المحافظة عموما، ومدينة القامشلي بصفة خاصة، شهد تمرينا مبكرا على ما ستقترفه الفرقة الرابعة، بعد ثماني سنوات، في درعا ودوما والمعظمية وحرستا، وفي حماة وحمص ودير الزور وبانياس. كذلك، سوف تشهد مرابطة ماهر الأسد، القائد الفعلي للفرقة، في الموقع ذاته الذي يذكّر بمرابطة أمثال رفعت الأسد وعلي حيدر وشفيق فياض في تدمر وحماة وحلب، مطلع الثمانينيات! كان جليا أن قرار استخدام العنف على نطاق واسع انبثق، في جانب جوهري آخر، من أنّ النظام أخذ يبدي مقدارا إضافيا مفرطا من العصبية تجاه أكراد سورية بعد احتلال العراق، وكأن رؤوس السلطة صارت على قناعة راسخة بأن تلك المنطقة، وجماهير الكرد تحديدا، يمكن أن تنقلب إلى «حصان طروادة»، فقد تلجأ إليه إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن إذا شاءت قطع خطوة ملموسة وعملية لزعزعة النظام الحاكم في دمشق. وقبل أسابيع معدودات من اندلاع انتفاضة القامشلي، كان بشار الأسد قد أبلغ صحافيي «نيويورك تايمز» أنّ «الأظناء ال41»، الذين أحيلوا على القضاء على خلفية حضور، أو بالأحرى نيّة حضور، ندوة حول قانون الطوارئ عُقدت في حلب، هم «أكراد يهدّدون الوحدة الوطنية»! من جانب آخر، كانت محافظة الحسكة تنتمي إلى ما يُعرف في سورية باسم «المحافظات الشرقية»، التي ظلت على الدوام ضحية الإهمال وسوء الاهتمام والتجاهل من جانب السلطة المركزية، لسبب أول (غير معلَن، بالطبع) هو أن سكانها كانوا مدعاة ريبة: إمّا لأنهم من الأقليات، الكردية والسريانية والآشورية والأرمينية؛ أو لأن روابطهم مع الجار العراقي، وهي تاريخية وثقافية واجتماعية وعائلية، جعلتهم أقل تعاطفا مع الحكومات البعثية، منذ سنة 1963 عموما، وخلال عقود «الحركة التصحيحية» على وجه أخصّ. المفارقة أن تلك المحافظات تُعدّ «أهراء سورية»، إذْ تتمركز فيها ثروات البلاد ومواردها الأساسية: في الحسكة النفط وزراعة محاصيل استراتيجية، كالحبوب والقطن، وفي دير الزور النفط وشريط نهر الفرات الحيوي، وفي الرقة الكهرباء وسدّ الفرات. وإذا كان التمييز البيّن قد وقع على مواطني تلك المحافظات، بالمقارنة مع محافظات الداخل والعاصمة؛ فإنّ التمييز الذي عانى، ويعاني، منه المواطنون الأكراد ظل أشد، وأبعد أثرا، وبلغ مستوى التجريد من الجنسية، والحرمان تاليا من حقوق التعليم وتسجيل الولادات الجديدة والسفر، إذا وضعنا جانبا التحريم شبه التامّ المفروض على الحقوق الثقافية والسياسية الأساسية. وعلى سبيل المثال، والمقارنة، هنالك في مدينة القامشلي مدارس خاصة تدرّس اللغة السريانية، وأخرى خاصة تدرّس اللغة الأرمنية، ولكنّ المواطن الكردي ليس ممنوعاً من هذا الحقّ الطبيعي فحسب، بل إنّ احتفال الأكراد بأبرز أعيادهم، النيروز، يحتاج إلى إذن خاص من السلطات الأمنية، ويحدث غالباً أن لا يُمنح ذلك الإذن، فيُحتفى بالعيد في البراري والجبال، على نحو شبه سرّي. ولعلّ المشهد لا يكتمل إلا إذا وُضع، أوّلاً، في سياق ثلاث محطات فاصلة في تاريخ التمييز الرسمي الذي حاق بالمواطنين الأكراد في سورية، وفي مناطق «الجزيرة» تحديداً. المحطة الأولى تعود إلى سنة 1962، حين تقصدت السلطة إجراء إحصاء استثنائي مفتعل في محافظة الحسكة وحدها، أسفر عن تجريد نحو 200 ألف مواطن كردي من الجنسية، وتسجيلهم في القيود بصفة «أجنبي»؛ كما أسفر عن تجريد 80 ألفا آخرين، ولكن دون تسجيلهم في القيود هذه المرّة، بحيث دخلت إلى سجلات الأحوال الشخصية تلك الصفة العجيبة: «المكتوم». وغنيّ عن القول إن ضحايا هذا الإجراء يعدّون بمئات الآلاف، وذروة مأساتهم اليومية تتمثل في استحالة تسجيل الأطفال، والحرمان من التعليم في حالات عديدة لا يتمكن فيها أهل الطفل من الحصول على بطاقة التعريف المطلوبة. ولم يكن غريبا أن تكون «رشوة» الأسد الأبكر للمواطنين الكرد، بعد انخراطهم الواسع في الانتفاضة، هي مرسوم «منح» الجنسية إلى البعض منهم. وفي سنة 1963، كان الملازم محمد طلب هلال، الذي سيرتقي بعدئذ سلم المناصب العليا سريعا، قد رفع إلى قيادة حزب البعث دراسته الشهيرة، ذات التوجه الشوفيني المكشوف، والعنصري الصريح أيضا، التي اقترحت جملة إجراءات، حول كيفية «تذويب» الأكراد في «البوتقة» العربية! تأسيسا على بنود تلك الدراسة، جري تعريب أسماء عشرات القرى والبلدات الكردية، ومُنع الأكراد من تسجيل أطفالهم إذا اختاروا لهم أسماء كردية، كما مُنعوا من الطباعة باللغة الكردية، فضلا عن مجموعة أخرى متنوعة من الإجراءات التمييزية الفاضحة. وأخيرا، في مطلع السبعينيات فرضت السلطات إقامة حزام عربي بطول 375 كلم وعمق يترواح بين 10 و15 كلم، على طول الحدود السورية التركية، جرى بموجبه ترحيل 120 ألف مواطن كردي من 332 قرية، وإحلال سكان «عرب» محلهم، جرى جلبهم من القرى التي سيغمرها سدّ الفرات في محافظة الرقة، وبُنيت لهم قرى نموذجية، تحت رعاية مباشرة من القيادة القطرية لحزب البعث، ممثلة في شخص عبد الله الأحمد. ولا يكتمل البعد الجدلي للمشهد إلا إذا توقف المرء عند مشكلات الحركة السياسية الكردية ذاتها، بأحزابها التي يعود أقدمها إلى سنة 1957، والتي تتجاوز اليوم ال15 حزبا ومجموعة، وتتناهبها الانشقاقات والخلافات والولاءات، لأسباب لا تبدو مفهومة دائما. وليس سرّا أن مكمن التناقض الكبير في سلوك بعض القيادات الكردية أنها كانت، من جهة أولى، تقبل التنسيق مع النظام السوري ضد النظام العراقي، خلال أحقاب العداء بين البعثيين في دمشق وبغداد، وكانت، من جهة ثانية، تشجع طرح شعارات انفصالية غير واقعية وغير جادّة، ولا تقرّها كتلة الأحزاب والحركات الكردية، ولا يقبل بها الشارع الشعبي الكردي العريض. كذلك سكتت بعض القيادات عن، وأحيانا شجعت على، إشاعة خطاب كردي شوفيني مضاد، إذا صح التعبير، ضد العرب، لا يصب الزيت على النار فحسب، بل يهدد أيضا واقع انتماء الجماهير الكردية إلى الوطن في المقام الأول، ويمس وشائج ارتباطها بالمجتمع السوري العريض. وهذه الحال تفسر، أغلب الظن، تأخر القيادات الكردية التقليدية عن الانخراط في الحراك الشعبي منذ مظاهره الأبكر واتخاذ البعض مواقف متحفظة من الانتفاضة، مقابل مسارعة الشرائح الشابة من أبناء الكرد إلى أخذ زمام المبادرة وقيادة التظاهرات الحاشدة في القامشلي وعامودا والدرباسية وسواها. كما تفسر الحال ذاتها ما تعانيه الأحزاب الكردية اليوم من تشرذم، يتجاوز الاختلاف الصحي إلى التنازع الضارّ، بعد تشكيل «المجلس الوطني الكردي» أواخر أكتوبر الماضي: فلا هو حقق وحدة الصفّ الكردي، رغم أنه ضم غالبية واسعة من الأحزاب والتنسيقيات الشبابية الكردية، ولا هو عوّض عن انسحاب الكرد من هيئات المعارضة الثلاث: المجلس «الوطني» و«إعلان دمشق» و«هيئة التنسيق». والحال أن أمور ترتيب البيت السياسي الكردي يجب أن تُترك للأحزاب والقوى الكردية ذاتها، وليس لأحد أن يمارس عليها وصاية من أي نوع، أيا كانت الدوافع المعلنة أو الكامنة. ومن حيث المبدأ، خير للانتفاضة السورية أن تنخرط فيها مكوّنات الشارع الكردي متحدة أو متآلفة أو متحالفة أو متوافقة، استنادا إلى الصِّيَغ الأنسب في ناظر الكرد وممثليهم، من أن تنخرط فيها مجزأة، متنازعة، متناحرة، قابلة على الدوام لخلق حال من الإحباط لدى الجماهير الكردية، ثمّ شارع الانتفاضة الشعبي عموما، وهي الحال التي أخذ ينتقدها بصراحة العديد من النشطاء الكرد. وبديهي، في هذا المقام، أن الأحزاب والقوى السياسية الكردية في سورية جزء لا يتجزأ من حركة الأحزاب والقوى السورية المطالبة بتغيير جوهري ديمقراطي في حياة البلاد، والمنخرطة في الانتفاضة على نحو أو آخر، بصرف النظر عن اجتهاداتها. وبديهي أيضا أن بلوغ مرتبة أرقى في النضال من أجل إسقاط نظام الاستبداد والفساد سوف يشمل تثبيت المزيد من حقوق المواطن السوري، عربيا كان أو كرديا، وبصرف النظر عن خلفيته الإثنية أو الدينية أو المذهبية. وليست القوى الكردية غافلة عن هذه البديهيات، بل هي تعرفها وتؤمن بها، وعلى أساسها توجد وتنشط في قلب الحراك الديمقراطي السوري. وليس لأي مشارك في الانتفاضة، فردا كان أو حزبا أو مجلسا أو هيئة... الحق في أن يؤجل، فما بالك بأن يفرز أو يفصل، بين حقوق السوريين على اختلاف انتماءاتهم، ولاسيما حقوق الأكراد المدنية والسياسية والثقافية، غنيّ عن القول. والتقارب في الذكرى، بين تواريخ 12 و15 و18 مارس، من القامشلي إلى دمشق إلى درعا، أشبه بمصادفة خير من ميعاد، تؤكد أن إنكار وجود مسألة كردية في سورية هو ضرب من دفن الرأس في الرمال، حيث لا يحتمل الزمن السوري الثمين الراهن، الموشك على حسم ساعة النصر، أي مقدار طفيف من ترجيح سلوك النعام!