منذ أسابيع، اكتشف الرأي العام في ألمانيا أن رئيس الوزراء كريستان ولف قد حصل على قروض من بعض البنوك بتسهيلات خاصة. ولأن ذلك يعتبر استغلالا لنفوذه، فقد طلب المدعي العام الألماني رفع الحصانة عن رئيس الوزراء الذي اضطر فورا إلى تقديم استقالته من منصبه... قبل هذه الواقعة بأسابيع، تم اكتشاف فضيحة أخرى في بريطانيا بطلها وزير الطاقة كريس هون الذي قاد سيارته بسرعة فائقة؛ وعندما حررت له مخالفة سرعة حاول أن يسجلها على رخصة قيادة زوجته السابقة. وقد اعتبر الرأي العام سلوك الوزير غير أخلاقي، مما أجبره على الاستقالة من منصبه. مثل هذه الوقائع تحدث دائما في البلاد الديمقراطية لأن القاعدة المستقرة هناك أن أي مسؤول في الدولة يجب أن يكون صادقا وأمينا؛ ولو حدث أنه تورط في الكذب أو مخالفة القانون، فإنه يكون غير جدير بمنصبه. تذكرت ذلك وأنا أتابع فضيحة تهريب المتهمين الأجانب في قضية التمويل الأجنبي التي لازالت منظورة أمام المحاكم المصرية.. إن المجلس العسكري هو الذي أثار هذه القضية في ظروف غامضة، عندما اختار بضع منظمات للمجتمع المدني وقدم المسؤولين عنها إلى المحاكمة بتهمة تلقى التمويل الأجنبي.. الغريب أن هذه المنظمات قد عملت عاما كاملا أمام أنظار المجلس العسكري فلم يعترض عليها، والأغرب أنها طالبت أكثر من مرة بتقنين أوضاعها فماطلت الحكومة المصرية في إعطائها التراخيص. أنا لا أوافق على التمويل الأجنبي من حيث المبدأ، وأتمنى أن يصدر تشريع يمنع التمويل الأجنبي من أساسه، لكن الغريب أن غضب المجلس العسكري من التمويل الأجنبي قد انحصر في المنظمات المدنية ولم يتطرق إلى الجمعيات والأحزاب الدينية التي أثبتت تقارير حكومية أنها تتلقى مئات الملايين من الدولارات من دول الخليج، إلا أن المجلس العسكري كعادته قد كال بمكيالين فأعفى أصدقاءه الإخوان والسلفيين من أية محاسبة وشن هجوما كاسحا على المنظمات المدنية واتهم أعضاءها بأنهم يعملون على نشر الفوضى ويخططون من أجل تقسيم مصر إلى خمس دويلات.. وقد تحولت هذه المحاكمة إلى مظاهرة إعلامية كبرى، حاول المجلس العسكري خلالها أن يصور نفسه كسلطة وطنية متشددة يستحيل أن تخضع للضغوط الغربية، ثم فجأة انفجرت الفضيحة : فقد تنحت هيئة محكمة الجنايات عن نظر القضية تحرجا من الضغوط التي يمارسها عليها المستشار عبد المعز (بإيعاز من المجلس العسكري) من أجل إلغاء حظر السفر عن المتهمين.. عندئذ، أسرع المستشار عبد المعز بتحويل القضية إلى دائرة أخرى يرأسها قاض (هو ضابط أمن دولة سابق) قام بإجراء اللازم ورفع حظر السفر عن المتهمين الأجانب، وفعلا هبطت طائرة عسكرية أمريكية في مطار القاهرة وقامت بترحيلهم بالمخالفة لأبسط قواعد القانون. عندئذ، أحس المصريون جميعا بالإهانة وهم يرون سيادتهم الوطنية وقوانين بلادهم تنتهك أمام أعينهم.. نفس الإهانة التي أحسوا بها وهم يرون بنات مصر يسحلن في الشوارع وتهتك أعراضهن، ويرون شباب مصر تدهسهم المدرعات وتفقأ عيونهم ويقتلون بالرصاص على أيدي جنود مصريين. إن المقارنة بين الحكومة الأمريكية التي تستميت دفاعا عن مواطنيها حتى ولو كانوا متهمين وبين المجلس العسكري الذي أهان كرامة المصريين مرارا وتكرارا لا بد أن تدفعنا إلى السؤال: لماذا تحافظ الحكومات الغربية على حقوق مواطنيها بينما تهين السلطة في مصر مواطنيها باستمرار؟! - يرجع ذلك، في رأيي، إلى ثلاثة عوامل: أولا، طبيعة نظام الحكم إن الطريقة التي يتولى بها الحاكم السلطة تحدد سلوكه أثناء توليها، فالرئيس الذي جاء بانتخابات حرة سيكون دائما خاضعا لإرادة الشعب ومراقبته ولن يستطيع أن يستبد أو يهدر حقوق الناس. المجلس العسكري يحكم مصر الآن بنفس أسلوب مبارك، فهو يتولى السلطة لأنه يملك القوة اللازمة للبقاء فيها. من الطبيعي، إذن، ألا يعترف بحقوق المصريين لأنهم لم يختاروه ولا يملكون تغييره لو أرادوا. إن المجلس العسكري، مثل كل المستبدين، لا يعمل أي حساب للشعب. هذه الاستهانة بالشعب تنتقل عادة من الحاكم المستبد إلى وزرائه لأنهم يعلمون بأن أحدا لن يقدر على محاسبتهم، وهم لا يستقيلون أبدا ويتملقون الحاكم وينافقونه لأنهم يعلمون بأنه مادام الحاكم راضيا عنهم فإنه سيحتفظ بهم مهما أهانوا الشعب ونهبوه وكذبوا عليه. ثانيا، درجة استقلال القضاء القضاء في الدول الديمقراطية مستقل تماما ولا يستطيع أي شخص حتى لو كان رئيس الدولة أن يتدخل في قراراته. إن أكبر مسؤول هناك يعلم بأن أصغر وكيل نيابة يستطيع أن يستدعيه ويوجه إليه التهم ويأمر بحبسه، وبالتالي تتحول الملاحقة القانونية إلى كابوس حقيقي يطارد أي مسؤول في النظام الديمقراطي فيحرص على احترام القانون. بالمقابل، فإن النظام القضائي في مصر غير مستقل، وهو خاضع عمليا لسلطة رئيس الدولة لأن إدارة التفتيش القضائي، التي تتحكم في مكافآت القضاء وجزاءاتهم، تابعة لوزير العدل الذي يعينه رئيس الجمهورية (أو المجلس العسكري)، وفي النهاية فإن وزير العدل يتحكم في مصائر القضاة بمعنى الكلمة. أضف إلى ذلك أن رئيس الجمهورية هو الذي يعين النائب العام الذي يتولى سلطة التحقيق وتوجيه الاتهام، بالإضافة إلى نظام الانتداب الداخلي الذي يسمح لبعض القضاة بالعمل كمستشارين بمكافآت كبيرة في وزارات معينة بينما هم يفصلون في القضايا، مما ينسف مبدأ حياد القاضي من أساسه.. للإنصاف، بالرغم من كون النظام القضائي غير مستقل فإن معظم القضاة المصريين مستقلون من وحي ضمائرهم، وهم يدفعون في ذلك ثمنا باهظا من راحتهم وأرزاقهم .. إن الموقف العظيم الذي أقدمت عليه هيئة محكمة جنايات القاهرة برئاسة المستشار محمد محمود شكري عندما رفضت ضغوط المجلس العسكري ليس إلا نموذجا مشرفا واحدا لما يفعله آلاف القضاة المصريين في قضايا غير شهيرة لا نسمع عنها. وفي عام 2005، خاض أكثر من ثلثي قضاة مصر معركة عظيمة من أجل تحقيق الاستقلال للنظام القضائي. ولسوف يذكر التاريخ أن هؤلاء القضاة الشرفاء رفضوا أن يكونوا شهود زور على انتخابات مزورة وأنهم كانوا ولازالوا يناضلون ليس من أجل امتيازات أو مغانم وإنما دفاعا عن العدل. على أن عددا قليلا من القضاة قد تورطوا في التعاون مع النظام المستبد، وأقرب مثال على ذلك القضاة الذين اشتركوا في تزوير الانتخابات كما أثبتت أحكام محكمة النقض. وفي أعقاب الثورة، طالب الكثيرون بتطهير القضاء من القضاة المزورين، لكن المجلس العسكري تمسك بهم لأنه يحتاج إلى خدماتهم؛ بل إن المجلس الأعلى للقضاء قد أعد قانونا متكاملا لتحقيق الاستقلال الكامل للقضاء، لكن المجلس العسكري قام بتعطيل القانون لأنه سيحرمه من السيطرة على السلطة القضائية.. لا يمكن أن تعود إلى المصري كرامته وحقوقه بدون نظام قضائي مستقل. ثالثا، المفهوم الشائع للدين في الدول الديمقراطية، لا يتحدث أحد من المسؤولين عن دينه أو ممارسته للعبادات، لأن الأخلاق وحدها هي معيار الحكم على الإنسان. من حقك أن تكون مسيحيا أو مسلما أو يهوديا أو تعتنق أي دين، فهذا شأنك وحقك وحرية الاعتقاد والعبادة مكفولة للجميع، لأن دينك يخصك وحدك؛ أما أداؤك في عملك وأمانتك واجتهادك وتعاملك مع الآخرين، فهذه هي المعايير الحقيقية للحكم عليك أمام الناس أو القانون. يكفي أن يكذب رئيس الدولة مرة واحدة لكى ينتهي مستقبله السياسي ويعزل من منصبه ويفقد ثقة الناس. في الدولة الديمقراطية، تكون الأخلاق هي معيار التدين، ولا تكون مظاهر التدين وحدها دليلا على الأخلاق. هذا المفهوم يشكل جوهر الإسلام الصحيح. إن العدل والحرية والمساواة هي المبادئ الأساسية التي نزل الإسلام من أجل الدفاع عنها وكل ما عداها أقل أهمية؛ إلا أن فهم الكثيرين للإسلام صار شكليا وقاصرا. لقد حصل الإخوان والسلفيون على أغلبية مقاعد البرلمان (في انتخابات قد تكون غير مزورة، لكنها لم تكن عادلة ولا ديمقراطية). ورغم ذلك، فقد كتبت في هذا المكان مطالبا بدعم هذا البرلمان لأنه في النهاية الهيئة الوحيدة المنتخبة القادرة على تحقيق أهداف الثورة. لكننا نرى الآن أن مفهوم التدين عند كثيرين من أعضاء البرلمان قاصر وشكلي.. العقيدة منفصلة عن السلوك، المظهر والطقوس أهم من العمل.. هؤلاء النواب يسعون إلى استصدار قرار يلزم المدارس بتعطيل الحصص من أجل إقامة صلاة الظهر بينما لم يفعلوا أي شيء من أجل القصاص للشهداء وهم عاجزون عن توجيه أي اتهام إلى المجلس العسكري الذي تسبب في مذابح راح ضحيتها العشرات من شباب مصر، بل إنهم في مذبحة بورسعيد اكتفوا بإدانة وزير الداخلية ولم يجرؤوا على النطق بكلمة واحدة عن مسؤولية المجلس العسكري.. نواب كثيرون لحاهم طويلة وعلامات السجود على وجوهم، لكنهم لا يتحرجون من تطبيق سياسة مزدوجة المعايير إرضاء للمجلس العسكري. فعندما يخطئ النائب زياد العليمي ويتفوه بكلمة تسيء إلى المشير، يثور النواب الأتقياء ويتنافسون في التنكيل بالعليمي مع أنه قال كلمته المسيئة خارج البرلمان، وعندما يوجه نائب داخل البرلمان اتهامات مشينة في حق شخصية وطنية كبيرة، مثل البرادعي، يرفضون محاسبة المخطئ ويصفقون له ويهنئونه. البرادعي الذي يصفقون لمن يتهمه بالعمالة الآن هو نفس البرادعي الذي جمع الإخوان يوما 600 ألف توقيع من أجل تأييده.. إلا أن ذلك حدث قبل الثورة حين كان الإخوان يحتاجون إلى دعم البرادعي، أما الآن فهم يحتاجون إلى دعم المجلس العسكري ومواقفهم دائما تتغير وفقا لمصالحهم. هذا التلون السياسي مناف للأخلاق، وكل ما هو مناف للأخلاق مناف للدين بالضرورة.. إلا أن التاريخ يعلمنا أننا إذا قصرنا الدين على الشكل والإجراءات من الممكن أن نقدم على تصرفات غير أخلاقية بضمير مطمئن تماما. لن تتغير مصر إلا إذا تغير مفهومنا للدين. إن فضيحة تهريب المتهمين الأجانب، بقدر ما تمثله من إهانة بالغة لكرامتنا الوطنية فإنها تضعنا وجها لوجه أمام الحقيقة. لقد سقط حسني مبارك، لكن النظام الذي أنشأه لازال يحكم مصر . إن المجلس العسكري هو امتداد لمبارك في الفكر والأداء، وهو يهين المصريين تماما كما تعود مبارك أن يهينهم. لن يتوقفوا عن إهانتنا إلا إذا حققنا أهداف الثورة وأقمنا دولة العدل والحرية. الديمقراطية هي الحل.