تعيش العائلة الملكية الإسبانية في هذه الفترة أياما عصيبة بعد تورط أحد أصهارها، إنياكي أوردانغارين، زوج الأميرة كرسيتنيا، في قضية تتعلق بالرشوة. وقد عرفت مجريات هذه القضية في الأيام الأخيرة تطورات مثيرة بعد إقدام القضاء الإسباني على استدعاء الصهر للمثول أمام قاضي التحقيق على خلفية تهم الفساد الموجهة إليه، والقضية لا تزال تعد بأشواط أكثر إثارة. 23 فبراير من كل سنة. تاريخ مجيد في حياة الأسرة الحاكمة في إسبانيا. ففي مثل هذا اليوم من سنة 1981، تعرض الملك خوان كارلوس الثاني لمحاولة انقلابية كادت تضع حدا لحكم "آل بوربون" بإسبانيا، لكنها آلت إلى الفشل. الانقلاب قاده عسكريون، وكان فشله الانطلاقة الحقيقية لإسبانيا نحو تعميق الديمقراطية. وقد خلد "آل بوربون" هذه السنة ذكرى 23 فبراير، التي مرت عليها ثلاثة عقود، على إيقاعات فضيحة تورط فيها صهرهم إنياكي أوركانداين، دوق بالما دي مايوركا وزوج الأميرة كريستينا، ابنة العاهل خوان كارلوس الثاني. الصهر، وهو أب لأربعة أطفال يحملون جميعهم لقب "كبار إسبانيا"، توصل في 25 فبراير الماضي باستدعاء من قاضي التحقيق بمدينة دي بالما، خوصي كاسترو، من أجل المثول أمام القضاء للتحقيق معه في تهم الفساد الموجهة إليه. ويتضمن صك الاتهام، الذي يتابع بموجبه الصهر الملكي، قضية تتعلق ب"تزوير وثائق إدارية واختلاس أموال عمومية وحالات غش". ويسعى القضاء الإسباني إلى فهم حيثيات تمكن الأمير أوردانغارين من تحويل ملايين من الأورو نحو حسابات شركته الخاصة. الشكوك تحوم حول دواعي إقدام الصهر الملكي، البالغ من العمر 44 سنة، في فترة ترؤسه معهد "نوس"، وهو مؤسسة غير ربحية، في الفترة المتراوحة بين 2004 و2006، على ضخ مبالغ ضخمة في حسابات شركات توجد في ملكيته، بالإضافة إلى حساباته الشخصية ببعض الأقاليم الإسبانية التي توصف ب"الجنان الضريبية" من قبيل جزر البليار وبلنسية. محامو أوردانغارين رفضوا الرد على الاتهامات الموجهة إلى موكلهم أمام وسائل الإعلام الإسبانية، التي أبدت اهتماما كبيرا بهذه القضية. غير أن أحد هؤلاء المحامين أكد في تصريحات إعلامية مقتضبة أن موكله يقضي بياض يومه في مقر إقامته بالعاصمة الأمريكيةواشنطن، التي هاجر إليها سنة 2009 من أجل الالتحاق بفريق عمل عملاق الاتصالات "تيليفونيكا"، في إعداد دفاعه وتحضير الوثائق التي تدفع عنه التهم الموجهة إليه من قبل القضاء الإسباني.غير أن وجود زوجة ابنة ملك إسبانيا في الديار الأمريكية لم يجعله في مأمن من عدسات المصورين. ففي الأسبوع الماضي، فاجأه فريق من المصورين الصحافيين، وعندما فطن إلى وجود عدسات ترصده لاذ بالفرار، وكان بديهيا أن يطرح كل من حضر تلك الواقعة السؤال التالي: "لماذا يهرب أوردانغارين؟". طيف أثنار الإجابة عن السؤال السابق المتعلق بأسباب فرار أوردانغارين من عدسات المصورين أصبحت تشغل الرأي العام الإسباني، الذي عاش منذ أشهر عديدة على إيقاعات التساؤل عما إذا كانت التهم الموجهة إلى الصهر الملكي ترتكز على قرائن دامغة. ثمة أيضا فئة من الإسبان لم تتردد في المطالبة بالكشف عن القرائن المضادة، التي من شأنها أن تكشف براءة زوج الأميرة كريستينا وتجنبه شبح المتابعة القضائية. غير أن الأخبار التي تداولتها وسائل الإعلام الإسبانية، خصوصا المنابر الصحافية المكتوبة، عن القضية والتحقيقات التي أنجزها مجموعة من الصحافيين المرموقين في البلاد جعلت الكثيرون يسلمون بأن أوردانغارين متورط حقيقة في التهم الموجهة إليه، وإن كان التريث في قطع الشك باليقين في هذه القضية سيد الموقف في انتظار الحكم النهائي للقضاء في هذه الفضيحة. وكشفت الصحافة الإسبانية عن مستجدات جديدة في حياة الأمير الصهر. وتم نشر العديد من الوثائق تورط زوج الأميرة كريستينا في قضايا توظيفات مكثفة، ومخالفة القانون الجاري به العمل في استخلاص بعض المستحقات، وإبرام عقود لتفويت صفقات دون الإعلان عن تقديم طلبات عروض، بالإضافة إلى الحصول على تعويضات مهمة مثل تقارير تبين في وقت لاحق أنها منقولة كليا أو جزئيا عن مواقع بشبكة الإنترنت، ولا تزال التهم تتوالى يوما بعد آخر. قبل أن يستدعي القضاء الإسباني رسميا إينياكي للمثول أمامه للتحقيق معه في التهم الموجهة إليه، قام في خطوة تمهيدية باستدعاء شريكه دييغو توريس، لكن هذا الأخير التزم الصمت أثناء التحقيق معه ولم ينبس ببنت شفة. البدايات الجميلة كانت بدايات إنياكي أوردانغارين في محيط الأسرة الملكية الإسبانية جميلة. الإسبان حيوا قرار الأميرة كريستينا الزواج به، خصوصا أنه لم يكن سليل أسرة نبلاء أو أرستقراطية. كان في بداياته محبوبا من قبل الإسبان، وكان يعيش قصة حبة مجنونة مع الأميرة كريستينا. ورغم أنه لم يكن يتحدر من أسرة أرستقراطية أو عائلة نبلاء، فإن اقترانه بابنة العاهل الإسباني اكتسب أبعاد كبرى. البعض ركز حينها على أصوله الباسكية وانتمائه إلى أسرة باسكية مشهود لها بوطنيتها ودفاعها المستميت عن مطالب الباسك بالانفصال عن إسبانيا وتأسيس دولتهم الخاصة، ليخلص إلى أن هذا الزواج يعتبر مصالحة وطنية مع إقليم يضج بأطروحات الانفصال، وتمنوا أن يكون هذه القران خطوة في اتجاه إزالة مخاوف الإسبان من النزعات الانفصالية. لم يكن أوردانغارين قبل اقترانه بالأميرة كريستينا اسما مجهولا لدى الرأي العام الإسباني، وإنما كان وجها معروفا، بل بطلا محبوبا في كرة اليد، تمكن من قيادة المنتخب الإسباني لهذه اللعبة لتحقيق إنجازات تاريخية. ومع ذلك، أثيرت في تلك الفترة أخبار تحدثت عن رفض العاهل الإسباني خوان كارلوس مباركة زواج ابنته من الشاب الباسكي. غير أن تدخلات أفراد من الأسرة المالكة أفلحت في إقناع خوان كارلوس بالعدول عن رفضه ومباركة زواج ابنته من أوردانغارين. ويبدو أن الذين كانوا شهود عيان على زواج أوردانغارين بالأميرة كريستينا هم أكثر الفئات استغرابا للتهم الموجهة إلى البطل السابق في كرة اليد. وتعتبر هذه الفئة أيضا الأكثر إلحاحا في طرح السؤال التالي: "كيف يمكن أن يتورط هذا "الكونت" في قضايا تفوح منها رائحة تلاعبات مالية؟ ثمة أيضا تساؤلات كثيرة يطرحها الرأي العام الإسباني في محاولة منه لفهم حيثيات هذه القضايا الموجهة إلى صهر عاهله، من قبيل: "لماذا يقدم على شراء قصر بمدينة برشلونة بغلاف مالي وصل إلى 6 ملايين أورو؟ ألم يكن حريا بزوجة ابن الملك أن يتفادى كل ما من شأنه أن يثير شبهات حول ذمته المالية؟ هل سقط زوج الأميرة كريستينا صريع جنون العظمة؟ وهل كان يريد توظيف الأموال التي راكمها على مدى سنين لاستمالة أصوله؟ وعلى صعيد آخر، تكشف هذه التهم الموجهة إلى أوردانغارين جانبا لا يزال مظلما من الفترة التي تولى فيها خوصي ماريا أثنار، الزعيم السابق للحزب الشعبي الإسباني، مسؤولية رئاسة الحكومة الإسبانية، في الفترة المتراوحة بين 1996 و2004. ففي السنوات التي قضاها أثنار في قصر "مونكلوا"، تمكنت شخصيات نافذة في العديد من الأقاليم الإسبانية من مراكمة ثروات ضخم، وقد رصدت نماذج كثيرة لحالات مثيرة للاغتناء السريع في تلك الفترة. نجمت هذه الحالات عن تلاقي مصالح المنتخبين المحليين مع رجال الأعمال، وهو ما مكن المنتخبين من الحصول على مبالغ طائلة من رجال الإعمال مقابل تمكينهم من الظفر بصفقات عمومية وتسهيلات في عالم العقار. بالموازاة مع ذلك، تنامى بشكل لافت إحساس بتمتع المقربين من الأسرة الملكية، وفي مقدمتهم الأصهار، بالحصانة من المتابعة القضائية. غير أن السنوات التالية لعهد أثنار شهدت تحولات جذرية، أدت إلى دخول القضاء على الخط، وأصبح قضاة التحقيق في العديد من الأقاليم يقودون تحقيقات معمقة من أجل الكشف عن حيثيات حالات الاغتناء السريع المرصودة في العقدين الماضيين. مصير الأميرة انطلقت بوادر الفضيحة من صفحات الصحف الإسبانية، وسرعان ما اتسعت رقعتها لتثير شهية باقي وسائل الإعلام. ومن ثمة كان من البديهي أن يدخل القضاء على الخط من أجل البت في التهم الموجهة إلى زوجة ابنة الملك خوان كارلوس الثاني. وبعد أسابيع من ارتباط اسم أوردانغارين بالفضائح المالية، أصدر القصر الإسباني في 12 دجنبر الماضي بيانا مقتضبا يؤكد فيه "سلب الدوق جميع مسؤولياته الرسمية"، وبالتالي حرمانه من حضور الأنشطة الرسمية للأسرة الملكية بسبب خروجه عن "السلوك النموذجي للأمراء". كثيرون اعتبروا هذا البيان بمثابة قرار ملكي ب"نفي الدوق". بعد 12 يوما فقط من صدور البيان سالف الذكر، عاد الملك خوان كارلوس الثاني إلى إثارة القضية بشكل غير مباشرة في خاطبه بمناسبة السنة الميلادية الجديدة. العاهل الإسباني أكد على "ضرورة معاقبة كل الأفعال والسلوكات المخالفة للقانون، وفق القوانين الجاري بها العمل". وأضاف قائلا: "الجميع سواسية أمام القانون". في غمرة تلك الأحداث، كشف القصر الإسباني، لأول مرة في تاريخه، حجم الميزانية المرصودة له من قبل خزينة الدولة. ميزانية بلغت 8.4 ملايين أورو في السنة الماضية، مع الإشارة إلى أن هذه الميزانية عرفت سنة 2011 تقلصا بنسبة 5 في المائة مقارنة بسنة 2010. كان واضحا أن العاهل الإسباني كان بدوره يجيب عن الأسئلة، التي بدأت تطرح عما إذا كان على علم بما قام به صهره. الأسرة الملكية حرصت على تبرئة ذمتها من التهم الموجهة إلى زوج الأميرة كريستينا. وانبرى الخبير القانوني غريغوريو بيسيس باربا، أحد واضعي الدستور الإسباني، للدفاع عن الأسرة الملكية، وأطل على الإسبان من شاشة إحدى القنوات التلفزيونية ليعلن بأن الملك خوان كارلوس طالب في وقت سابق صهره الدوق أوردانغارين بضرورة التخلي عن مزاولة أنشطة اقتصادية، غير أن الصهر لم يبد أي تجاوب مع مطالب الملك. وثمة أسباب أخرى تجعل الأسرة الإسبانية في وضع لا تحسد عليه بعد قرار القضاء تحريك المتابعة في حق الدوق أوردانغارين. إذ إن زوجته الأميرة كريستينا، ابنة الملك خوان كارلوس، هي شريكة زوجها في العديد من المقاولات، وهو ما يهددها بدورها بالمتابعة القضائية في حالة الاشتباه في تورطها في التهم الموجهة إلى زوجها. وفي هذا السياق، لم تتردد نقابة من اليمين المتطرف، نصبت نفسها طرفا مدنيا في قضية الدوق أوردانغارين، في المطالبة بتحريك المتابعة في حق الأميرة كريستينا بدعوى أنه "لا يمكنها أن تدعي عدم معرفتها بما قام به زوجها لأنه جنى بفضل ذلك أرباحا". أكثر من ذلك، انضم رامون سوريانو، وهو عضو في المحكمة العليا، إلى الأصوات المطالبة باستدعاء الأميرة للتحقيق معها على خلفية التهم الموجهة إليها "من أجل تمتين ثقة المواطن الإسباني في قضائه". الانتقادات اللاذعة لا تمس بالإجماع الإسباني على الملكية بثت قناة تلفزية كاتلانية قبل نحو أسبوعين برنامجا وثائقيا يعيد طرح سؤال وضع الإسبان الإجابة عنه جانبا منذ أزيد من ثلاثين سنة لأنه يذكرهم بويلات الحرب الأهلية، التي كادت تعصف بالبلاد في النصف الأول من القرن الماضي. السؤال هو: "ملكية أم جمهورية"؟، وأعادت القناة بذلك النقاش في إسبانيا عقودا عديدة إلى الوراء. ومع ذلك، لم يمس البرنامج، رغم بثه على شاشة قناة تابعة لإقليم معروف بميولاته الانفصالية، بالإجماع الإسباني على الملكية. ويبدو أن قضية الدوق أوردانغارين، زوج الأميرة كريستينا، ستضع الأسرة الملكية الإسبانية الأسابيع المقبلة في وضع حرج، خصوصا في ظل الأزمة الخانقة التي يعاني منها الاقتصاد الإسباني. ورغم أن حكم "آل بوربون" ظل في إسبانيا في منأى عن الانتقادات منذ أربعة عقود، لم تتم إثارة قضايا من حياته الشخصية ولم تسلط الأضواء على جوانب كثيرة من حياته، فظلت بذلك في طي الكتمان، ولم يشر إلى بعضها إلا في كتب نادرة. وعلى هذا الأساس، سيكون امتحان تحريك المتابعة القضائية في حق الدوق أوردانغارين، زوج ابنة العاهل خوان كارلوس الثاني، أول امتحان حقيقي للأسرة المالكة في إسبانيا منذ ثلاثين سنة، أي منذ تاريخ الانقلاب العسكري الفاشل بتاريخ 23 فبراير 1981. لم يسبق أيضا أن أشير بالسوء إلى أفراد الأسرة الملكية من قبل وسائل الإعلام ذائعة الصيت أو الأوساط السياسية أو حتى من قبل الوطنيين، باستثناء أصوات من اليمين المتطرف اعتبرت على الدوام نشازا عن الإجماع الإسباني على النظام الملكي.