جيل واحد من الفرنسيين فقط، يعتبر أبناء وأحفاد الجاليات الأجنبية المقيمة بفرنسا، فرنسيين كاملي المواطنة. والواقع أن هؤلاء المهاجرين، خصوصا الجيل الثاني والثالث منهم، يتمكنون من تحقيق نجاحات في مختلف المجالات. ومع ذلك، يؤكد بعض علماء الاجتماع بأن «نجاحات المهاجرين تظل دائما موضع شبهة» ولذلك يتعين على الناجحين من المهاجرين التأكيد دوما على أن نجاحاتهم تأتت لهم عن جدارة واستحقاق. استطاع المهاجرون الوافدون على فرنسا، في العقود الماضية، أن يجنبوا أبناءهم كثيرا من الصعوبات التي واجهت مجهوداتهم الرامية للتأقلم مع المجتمع الفرنسي. ثمة اليوم نماذج كثيرة في مختلف المجالات تبرز إلى أي حد تمكن أبناء مهاجرين قدموا إلى فرنسا قبل عقود من فرض ذواتهم كفرنسيين مكتملي الجنسية وإن اختلفت البلدان الأصلية لآبائهم. هشام بولحمان، شاب في السادسة والثلاثين استطاع أن يصنع لنفسه اسما في عالم هندسة البرامج المعلوماتية. أكثر من ذلك، فإلى جانب نبوغه العلمي وانتزاع الاعتراف بكفاءته ومهنيته، حقق تميزا إضافيا عند إقدامه بنجاح على الانخراط في العمل السياسي، حيث يحمل أيضا صفة منتخب محلي. يبدي هشام ثقة كبرى في إمكانية تسجيل تنام في حضور أبناء الجاليات المقيمة في فرنسا في مختلف أجهزة الجمهورية الفرنسية الخامسة. وإذا كان هشام استحق بجدارة أن يرتقي اجتماعيا، وأصبح يصنف ضمن الطبقات المتوسطة، فإنه لم يخف إرادته الجامحة في أن يتمكن أبناؤه من ربح أشواط كبيرة في سلم الترقي الاجتماعي. يعلق كريسطوف غيلي، وهو خبير فرنسي في الديمغرافية، قائلا إن «الطبقة المتوسطة بالنسبة إلى أبناء المهاجرين، المتركزين، بالأساس، في ضواحي المدن الكبرى، تعتبر ترفا لأن تلك الطبقة تتكون أساسا من الموظفين وبعض البورجوازيين. ورغم أن هذه الطبقة تشكل بالنسبة إلى جزء كبير من المهاجرين في أغلب الأحيان مصدر إحباط، فإن الارتقاء إلى مستواها يعتبر هدفا يضعون تحقيقه نصب أعينهم». لكن، هل يمكن القول إن الارتقاء الاجتماعي لأبناء المهاجرين أمر ملموس على أرض الواقع، أم إنه لا يزال، على حد تعبير يزيد صادق، المندوب في التعددية وتكافؤ الفرص، مجرد «نكتة» يتندر بها في الوسطين السياسي والإعلامي الفرنسيين؟ أجيب عن هذا السؤال في تحقيق ميداني أصدره في سنة 2010 كل من المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية والمعهد الوطني للدراسات الديمغرافية. التحقيق نفسه أظهر أن نسبة أبناء المهاجرين من مجموع الأطر المتوسطة في سلك الإدارة وإجمالي المستخدمين المؤهلين لشغل مناصب تؤهلهم لدخول عالم الطبقة المتوسطة تناهز 40 في المائة، وهو ما يعادل 3 ملايين و100 ألف نسمة، علما أن أعمار المعنيين بهذا الإحصاء هم من سليلي أسر مهاجرة تراوحت بين 18 و50 سنة. وبتعميق تحليل المعطيات التي حفل بها التحقيق الميداني سالف الذكر، يتبين أن المهاجرين من أصول أسيوية يستحوذون على أكبر حصة من مناصب الأطر التي يشغلها فرنسيون من أصول أجنبية، في حين يتم إسناد مناصب أقل أهمية للفرنسيين من أصل إفريقي. وفي مقابل هذا التعقيد في تسليط الضوء على الوضعية الحالية لأبناء الفرنسيين من أصول أجنبية في سوق الشغل، فإن مقارنة المهن التي يزاولها هؤلاء المهاجرون أو المناصب التي يتولونها بالأدوار والأعمال التي كانت تسند إلى آبائهم يوضح بشكل كبير المكتسبات الحقيقية التي راكموها بفضل الارتقاء الاجتماعي. إذ تشير الإحصائيات الرسمية إلى أن 14 في المائة فقط من الآباء تمكنوا من اقتحام عالم الطبقة المتوسطة، وهو ما يقارب ثلث نسبة أبنائهم الذين تمكنوا من بلوغ هذا الهدف. لا يزال والد هشام، وهو مغربي قدم إلى فرنسا في سنة 1975، يشتغل لدى «كالبيرسون»، وكان التحق بهذه الشركة بعيد وصوله إلى الأراضي الفرنسية. أما أمه، فتشتغل مياومة، ومع ذلك تمكن الأبوان من وضع أبنائهم على طريق مكنهم من تسلق درجات في سلم الطبقات الاجتماعية في فرنسا. فإذا كان هشام نجح في صنع اسم له في عالم هندسة البرامج المعلوماتية، فإن أخاه البكر يشتغل أستاذا، في حين تسير أخته الصغرى على نهج أخويها، حيث توقع على مسار دراسي بدون عثرات في كلية العلوم، كما أن هناك أخوين آخرين توأم استطاعا أحدها أن يصبح أستاذا للرياضيات والعلوم الفيزيائية وتمكن الآخر من انتزاع شهادة سمحت له بمزاولة مهنة تقنية تدر عليه شهريا دخلا محترما. تباين الاستراتيجيات يعادل المستوى التكويني لراما ديالو، ذات الأصول السينغالية، الشهادة التي رقت هشام، مغربي الأصل، إلى الطبقة المتوسطة. غير أن أب راما وصل إلى فرنسا قبل 6 سنوات من هجرة أسرة هشام، وتحديدا في سنة 1969. تقول إن الأب ديالو التحق بمجرد وصوله إلى الديار الفرنسية عاملا بسيطا في إحدى الشركات المتركزة أنشطتها في شمال فرنسا. وتتذكر راما، التي تتوفر على دبلوم عال في الهندسة، كيف كان والدها حريصا على تجنيبها وإخوتها المعاناة التي قاساها في سبيل الاندماج في المجتمع الفرنسي. كان يرى في الدراسة السبيل الوحيد لتحسين مستوى العيش، وبالتالي تقوية حظوظ أسرته في الاندماج والانصهار في مجتمع البلد المضيف. وإذا كانت راما، البالغة من العمر 35 سنة، تتولى مسؤولية تنفيذ ما يصطلح عليه ببرنامج «المواطنة والتنمية المستديمة» منذ أزيد من سنتين، فإن أختها تشتغل في قطاع التأمينات، وأخاها الأكبر يعمل مستشارا في المعلوميات في الوقت الذي قرر أخ ثالث العودة إلى بلده الأصلي السنغال. يرسم هشام حمداوة قضية مماثلة للطريق التي سلكتها أسرته لتحقيق حلم المهاجرين المتمثل في اقتحام عالم الطبقة المتوسطة. يقول هشام إن أباه استقدم في سنة 1964 من المغرب من أجل العمل في المناجم، ويؤكد أن العوامل التي تحكمت في تشغيل أبيه في تلك المناجم لم تكن لها أي علاقة بمؤهلات تكوينية أو معرفية، بقدرما كانت مناجم فرنسا، وقتئذ، في حاجة فقط إلى سواعد مفتولة تدير عجلة الإنتاج من أجل المساهمة في إعادة بناء الاقتصاد الفرنسي الذي تركته الحرب العالمية الثانية «تحت الصفر». بعد سنوات من العمل في المناجم، استطاع أبو هشام أن يتخلص من «أشغاله الشاقة»، ويلتحق بشركة «رونو»، العملاق الفرنسي للسيارات. وفي المقابل، كانت أم هشام تشتغل في تنظيف ملاعب كرة القدم بعد المباريات. ومع ذلك، استطاع المهاجران المغربيان أن يجنبا أبناءهما ما قاسياه في سنواتهما الأولى في الديار الفرنسية، خصوصا الأب. لهشام أخ يتولى مسؤولية مكلف بالاتصال في إحدى الشركات، وأخ ثان وأخت يشتغلان أستاذين في الجامعة.
عائق العنصرية إذا كان الدعم العائلي ووعي الأبوين بأهمية الدراسة في تحقيق حلم الترقي الاجتماعي عاملين حاسمين في تمكين نسبة من أبناء المهاجرين وأحفادهم من اقتحام عالم الطبقة المتوسطة، الذي كان إلى حدود سنوات قليلة «ماركة فرنسية مسجلة»، فإن العنصرية كانت العائق الرئيس الذي اعترض طريق تحقيق حلم هؤلاء المهاجرين. في هذا الإطار، يتذكر مهدي، البالغ من العمر 26 سنة، ويشتغل حاليا مستشارا قانونيا لمنظمة مناهضة للعنصرية والتهميش، الرعب الذي عاشه في أول دورة دراسية له بكلية العلوم القانونية بمدينة ليون. «الخطير أني كنت مجدا ومع ذلك كنت دائما أحصد نقطا دون المستوى» لأسباب ذات علاقة بالعنصرية. ومن حسن حظ مهدي أن فتاة فرنسية تنحدر من طبقات ميسورة أطلعته على أساليب مكنته من تنظيم طريقة عمله وسد الثغرات التي كانت تيسر للآخرين حرمانه من نقاط مهمة لمجرد انحداره من أصول غير فرنسية. تمكنت تلك الفتاة الفرنسية من فتح أعين مهدي على عوالم لم يكن يتجرأ من قبل على الاهتمام بها، وفي مقدمتها السياسة، والأنشطة الثقافية والاستعراضات الفنية. وهكذا، انتقل مهدي من طالب شبه منطو على نفسه، إلى أكثر الطلبة نشاطا في الكلية نفسها على صعيد التحصيل الدراسي والأنشطة الموازية التي كانت تنظم بالحرم الجامعي. وبعد حصوله على شهادة الإجازة من كلية ليون توجه إلى مدينة نيس واضعا نصب عينيه دبلومي ماستر، أحدهما في القانون العام وقانون الخدمة العمومية، والآخر في العلوم السياسية، تخصص سياسة المدينة. بعد نجاحه في مراكمة هذه الشهادات الجامعية، أيقن مهدي أن الأبواب جميعها قد فتحت له. غير أنه وجد أمامه من جديد إكراهات ذات علاقة بأصوله الأجنبية ومعتقداته الدينية حالت دون إقدام كثير من الشركات على توظيفه. وإذا كان الجيل الأول من المهاجرين الذين تمكنوا من اقتحام عالم الطبقة المتوسطة يتعايش مع كابوس وقوع تغييرات في مواقعهم المهنية تهوي بهم إلى الطبقات الاجتماعية المعوزة والمهمشة، فإن الجيلين الثاني والثالث مجبران في الوقت الراهن، زيادة على ذلك الكابوس، على تحمل الانعكاسات السلبية لأسمائهم، الدالة على أصولهم غير الفرنسية، أو على الأقل غير الأوربية، بالإضافة إلى الهواجس المرتبطة بمعتقداتهم الدينية. ويعتبر المغاربيون والأفارقة أكثر المهاجرين معاناة من هذه الوضعية مقارنة بالمهاجرين المنحدرين من أصول أسيوية. غير أن فلورانس سيبرون، وهي حاملة لشهادة الدكتوراه في السوسيولوجيا من جامعة أميانس، تؤكد أن هذه الإكراهات التي يواجهها المهاجرون في مساعيهم للاندماج في مجتمع البلد المضيف عادية من وجهة نظر علم الاجتماع، إذ تقول: «عموما، غالبا ما تعارض مساعي المهاجرين للاندماج في مجتمع مختلف في جزء كبير منه عن مجتمعاتهم الأصلية، إذ من الطبيعي أن تبرز لدى المجتمع المضيف مناعة ضد الوافدين عليه، تماما كما يفعل الجسم حين يرصد عناصر دخيلة عليه»، وتضيف هذه الجامعية الفرنسية قائلة: «الهجرة جزء لا يتجزأ من المجتمع، ومع ذلك، يجب الإقرار بأنه كلما تزايد حضور المهاجرين في مجتمع معين، تتنامى احتمالات رفضهم من قبل مكونات هذا المجتمع». ويؤكد هشام بولحمان بأنه ذاق مرارة العنصرية في مباراتين للتوظيف. حكى هذا المهندس في البرامج المعلوماتية كيف اجتاز الاختبارات الكتابية لمباراة توظيف بمعدلات جد مشرفة، قبل أن يفاجأ في الاختبارات الشفوية بممتحنيه يقصونه علنا من سباق التباري بدعوى أن المشغلين «محافظون». إذ أكدوا له بالحرف أن المشغلين «لا يريدون تشغيل عربي» لأن زبائنهم لن يستحسنوا هذا الأمر، وهو ما ستكون له انعكاسات سلبية على أنشطة الشركة المشغلة. إثبات الاستحقاق لا يزال هشام يتذكر أيضا أولئك البنكيين الذين رمقوه بنظرات استعلاء لم تخل من احتقار في إحدى مباريات توظيف ثانية تأبى أن تمحي مجرياتها من ذاكرته. لم يوجه إليه البنكيون، الذين أشرفوا على تلك المباراة أي أسئلة لاختباره، وإنما انبروا إلى مناقشة مدى إمكانية توظيف عربي في مؤسستهم. قبل أن يأمروه بالانصراف مبدين أسفهم لكونهم لا يستطيعون فعل شيء له. ويشدد هشام على خروجه باستنتاجات كثيرة في رحلة بحثه عن العمل عن تعامل الشركات الفرنسية مع المهاجرين المتقدمين بطلبات للعمل لديها، خصوصا إذا كان هؤلاء المهاجرون ينحدرون من أصول عربية قبل أن يقول: «يبدو أن قدر نجاحي أن يظل على الدوام موضع الشبهات». وتكشف الجملة الأخيرة لهشام عن معاناة أخرى يواجهها المهاجرون، المصنفون ناجحين، من الذين تمكنوا من الانضمام عن جدارة إلى الطبقة المتوسطة. إذ يكون المهاجرون مجبرين على الإثبات للجميع بأنهم استحقوا فعلا بلوغ هذه المرتبة داخل المجتمع. من ذلك، أن عميد إحدى الكليات الفرنسية، يجد نفسه من حين لآخر مضطرا إلى التأكيد للجميع، بما في ذلك أساتذة تلك الكلية، على جدارة بهذا المنصب رغم أن بعضهم كان زميلا له في فترات مختلفة من الدراسة ويشهد له بالتفوق والنبوغ. عن مجلة «ماريان»
وزير الداخلية الفرنسي يهاجم المهاجرين ويتجاهل نجاحاتهم وخدماتهم لم يتوقف كلود غيون، وزير الداخلية الفرنسية، منذ تسلمه مهامه على رأس هذه الوزارة، عن مهاجمة الجاليات المقيمة بفرنسا. ولا يفوت فرصة أيضا للإدلاء بتصريحات يهاجم فيها المهاجرين المقيمين ببلاده بطريقة شرعية. تسبب أيضا للأسر المهاجرة في جروح كثيرة، كان أبرزها اتهام أبنائها بكونهم الأكثر فشلا في النظام التعليمي لبلاده، وأدلى بإحصائيات متناقضة كان أكثرها جدلا حديثه عن أرقام تقدر نسبة الهدر المدرسي في صفوف أبناء المهاجرين من أصول غير أوربية بنحو 60 في المائة، وهي الإحصائيات التي انبرت لها منظمات مدنية فرنسية بالتكذيب والتفنيد. ومن جهتهم، رد مهاجرون يصنفون ناجحين، باعتراف الفرنسيين أنفسهم، على اتهامات وزير الداخلية في حكومة الرئيس نيكولا ساركوزي، الموشكة ولايتها على الانتهاء، بنفي تلك الاتهامات وتكذيب الأرقام التي تحدث عنها غيون. وقد أكد جميع المهاجرين الذين استطاعوا اقتحام عالم الطبقة المتوسطة الإرادة القوية التي يتمتعون بها لإثبات ذواتهم والاندماج في المجتمع الفرنسي وتحقيق الترقي الاجتماعي، ويستغربون إقدام وزير في الحكومة الفرنسية، علنا، على مهاجمتهم وتحميلهم مسؤولية المؤشرات السلبية للتعليم وتجاهل مئات من النماذج التي نجحت في اقتحام مجالات عددية كانت إلى وقت قريب مجالات حكرا على الفرنسيين، ولا تفتح أبوابها إلا للأوربيين.