يحدث أن نشعر أحيانا بأن أحدهم يتلصص علينا أو يتعقبنا، وقد نغدو ربما متوجسين ومتشككين، نبحث عن أدلة ما، وقد نجزع من طرقة خفيفة على باب. هذه أعراض وجدانية أخف من أن نسميها وسواسا قهريا أو خوفا مرضيا، وربما كانت مؤشرا على أننا قد أفرطنا في قراءة روايات «أكاتا كريستي» البوليسية الرائعة أو أكثرنا من مشاهدة أفلام «هيتشكوك»؛ فهذه الكاتبة، مثل ذاك المخرج، لها القدرة على أن تزرع فينا كقراء بذور الشك والتوجس من جميع أبطال الرواية حتى آخر أحداثها. هذا الأثر الذي تركته بداخلنا كتاباتها، والذي لا نستطيع له دفعا، هو ما جعل «أكاتا كريستي» نجمة تتربع على عرش الأدب البوليسي دون أي تحيز أو محاباة، وهو لقب نالته عن استحقاق نظرا إلى براعتها في استعمال توابل التشويق وإجادتها لخلطتها الإبداعية الخاصة بها. لكن ما الذي يصنع نجوم ونخبة الأدب في مجتمعنا، وما الذي يتحتم علينا القيام به من أجل الوصول إلى حكم عادل على الأعمال الأدبية؟ هل علينا استقصاء رأي الأكاديمي أم قراءة الأديب أم علينا الاحتكام إلى رأي القارئ الذي يشكل إقباله على شراء رواية أو ديوان عاملا لرفع نسبة مبيعات الكتب وعدد طبعاتها؟ وهل حين يهمس لنا أحدهم بأن ذلك العمل الأدبي رائع، يكون ذلك كافيا لتثمينه وإلحاقه بالكتب الجديرة بالقمة؛ لأن مفردة «رائع» أو «جيد» أو «رديء» بالنسبة إلى القارئ لا تؤدي نفس المعنى الذي تؤديه لدى صدورها عن الأكاديمي والباحث؟ قد يكون الجواب عن هذه الأسئلة قاطعا وواضحا في مجتمعات شكل فيها الكتاب وجبة يومية للناس. والأثر الذي تتركه بداخلهم القصص والروايات والأشعار يكون كافيا لكي يصنعوا من أدبائهم نجوما، مثلما يغدو تهافتهم على اقتناء رواية عاملا يدفع النقاد ووسائل الإعلام إلى متابعتها بالتحليل والنقد وليس العكس. لكن هل من السهل تبين ما يصنع نجومية مبدع أو أديب في بلادنا حيث القراءة أقل وحيث التدبير الثقافي يعوم في فوضاه؟ أحيانا نذهب لاقتناء أعمال أحد الكتاب، لنكتشف بعد القراءة، وبخيبة أمل، أن هذا الأديب لم يستطع، بالرغم من التنزيل الإعلامي الكثيف له، أن ينقلنا من حالة إلى أخرى، سواء معرفيا أو وجدانيا، ولم يترك بداخلنا ذلك الأثر الرائع الذي لا يزول كما وُعدنا بذلك. ومع ذلك، يصر البعض على أن يجعل منه ومن أمثاله نجوما في عالم الأدب ويذهب أحيانا إلى أخطر من ذلك حين يحولهم إلى قديسين أو مقدسين، أعمالهم منزهة عن أي نوع من النقد، حتى إننا قد نشكك في كفاية حواسنا ومداركنا لقراءة رواية أو ديوان ما! ربما تتوجب علينا، لكي نمنح كل مبدع المكانة التي يستحقها دون مزايدات من أي نوع، قراءة إبداعاتنا الوطنية حتى التخمة لفرز الغث من السمين، وقد يساعدنا الفايسبوك وتويتر وباقي الوسائط الجديدة والرائعة اليوم على أن نصنع نجوم الأدب، فالاحتكام إلى رأي الجمهور القارئ يبقى أفضل وسيلة وأكثرها ديمقراطية، بعدما أصبح زهد النقاد الحقيقيين في الإدلاء بآرائهم حول الإنتاج الأدبي يفتح المجال أمام النفاق والمحاباة في تقييم الإبداع، ويمنعنا كقراء من أن نكافئ مجهود الكاتب الذي يحترق كل يوم من أجل إنتاج أدب حقيقي، فمثلما هناك كتاب وصحفيون ذهبوا إلى السجون على خلفية تعريتهم لواقع الرداءة والفساد في الحياة العامة، فنحن اليوم في أمس الحاجة إلى أقلام بمثل تلك الجرأة لكي تشير إلى الفساد الثقافي مباشرة وبدون مواربة، أقلام تسمي الأشياء بمسمياتها لتحريك المياه الراكدة في مجال النقد الأدبي. فإذا كنا نتعطش كمواطنين إلى محاربة الفساد في طريقة تدبير شؤوننا، فعالم الثقافة له نفس الظمأ إلى بسط يد العدالة والديمقراطية بداخله.