كان إعلان محمد الطيب الناصري، وزير العدل السابق، عن إحداث أقسام مكلفة بجرائم الأموال في أربعة محاكم استئناف على الصعيد الوطني بداية جديدة لدور المجلس الأعلى للحسابات، الذي ظلت الكثير من قراراته غير ملزمة وحبيسة رفوف كل من المجلس الأعلى للحسابات ووزارتي الداخلية والعدل في قضايا تبذير المال العام في المؤسسات العليا للدولة وفي الجماعات المحلية. وظلت الملفات التي أحليت على العدالة قليلة جدا، والتي كان لقضاة المجلس الأعلى للحسابات الفضل في وضع اليد على مكامن الخلل وتحديد الاختلاسات التي وقعت فيها، فعدد الملفات التي أخذت طريقها إلى القضاء لا يبرز الدور الذي أنيط بالمجالس الجهوية للحسابات على الصعيد الوطني. ويبدو أنها مرحلة جديدة من خلال إعلان وزارة العدل عن تكوين 50 قاضيا للإشراف على البت في الملفات التي ستحال في القضايا المتعلقة بالرشوة وتبذير المال العمومي، حيث طرح هذا التكوين عددا من الإشكالات، لكون القضايا المتعلقة بالفساد تحتاج إلى قضاة ذوي خبرة في الميدان، وخصوصا في الحسابات والاقتصاد. وستكون الغرف المتخصصة في الجرائم المرتبطة بالمال العمومي في مدن فاس ومراكش والرباط والدار البيضاء جاهزة في الشهور المقبلة للنظر في الجنايات المنصوص عليها في الفصلين 241 و256 من القانون الجنائي والمتعلقة بالغدر والرشوة والاختلاس والقضايا المرتبطة بها، حيث تلقى القضاة تكوينا في التحقيق حول الجرائم المالية والاقتصادية، أطّرها خبراء فرنسيون، كما أسند التكوين إلى أطر عليا من المفتشية العامة للوزارة الداخلية بغرض إطْلاع القضاة حول مواضيع تهم مداخيل نفقات الجماعات المحلية وطرق صرفها والأملاك الجماعية وأموال الشراكات التي تكون لها علاقات بالجهات التابعة لوزارة الداخلية، لكون هذه الوزارة تتوفر على دراية كبيرة بالطرق المشبوهة لصرف الأموال العمومية. وقد جاء اعتقال عبد الحنين بنعلو، المدير العام السابق للمكتب الوطني للمطارات، كبداية لشعار تخليق الحياة العامة ومحاربة الفساد، موازاة مع الاختصاصات الواسعة التي منحها الدستور الجديد للمجلس الأعلى للحسابات، باعتباره مؤسسة دستورية، وهو مؤشر يدل على أن هناك إرادة للحكومة التي يقودها الإسلاميون لأول مرة في المغرب، والذين أعلنوا في وقت سابق أن «الحرب على الفساد» من أولويات برامجهم الحكومية، حيث أقر بنكيران في البرنامج الحكومي أمام البرلمان، بغرفتيه، بأن المغرب يفقد 20 مليار درهم من ميزانية الدولة بسبب الفساد والرشوة، في الوقت التي تسعى الحكومة إلى تفعيل قانون لحماية شهود الإثبات والمُبلِّغين عن قضايا الرشوة والفساد. قال بنكيران، رئيس الحكومة الجديد، في إحدى خرجاته، إن الملك أكد له أنْ لا أحد له الحق في التدخل في حكومته ولو كان من الديوان الملكي، في اشتغالها من أجل القضاء على الفساد، ولهذا اعتبر طارق السباعي، رئيس الهيئة الوطنية لحماية المال العام بالمغرب، في تصريح ل»المساء» أن القرار سياسي، لكون هذه المحاكم ستسير بالبلاد نحو القضاء على الفساد، لكن هذه الغرف -يضيف السباعي- ما زالت في حاجة إلى موارد بشرية مختصة لها دراية بالمال العام، في الوقت الذي ينجز المجلس الأعلى للحسابات العشرات من التقارير حول الفساد في عدد من مؤسسات الدولة إلى جانب الجماعات المحلية. لكن الإشكال الذي تطرحه الملفات التي ستحال على الغرف المكلفة بالجرائم المالية هو طول مراحل البتّ في الملفات المعروضة من قبل الجهات الوصية، ويضيف السباعي أن ملف بنعلو أصدر بخصوصه المجلس الأعلى للحسابات تقريرا منذ سنة 2009، ولم يتم اعتقال المتورطين الرئيسيين إلا بعد مرور حوالي 4 سنوات، وقد تستغرق مراحل المحاكمة سنوات أخرى.. واعتبر السباعي أنه يجب تفادي طول هذه الملفات في مراحل المحاكمات المقبلة التي ستحال من قبل المجلس الأعلى للحسابات أو غيره، في إطار الإسراع في التقاضي، الذي دشنته وزارة العدل سابقا من خلال القضاء الفردي وغيره من الإجراءات التي تساعد على البت في الملفات وعدم التأخر فيها. ورغم التطمينات التي تلقوها المغاربة من خلال الاعتقالات التي صدرت في حق مسؤولين في الأسابيع الماضية وإعلان مصطفى الرميد، وزير العدل والحريات العامة الجديد، عن وجود لائحة مرشحة للاعتقال، يظل التساؤل الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: ما مدى قدرة الحكومة الجديدة على مواجهة لوبيات اقتصادية تحتكر عددا من القطاعات، حيث أصبح الاقتصاد الخفي يلعب دورا كبيرا في إعاقة التنمية على الصعيد الوطني، رغم مصادقة المغرب على اتفاقية هيئة الأممالمتحدة لمكافحة الفساد وإخضاع منظومته التشريعية والمؤسساتية للتقييم. ويعتبر السباعي أن البلاد محتاجة الآن إلى ترجمة الخرجات الإعلامية لعبد الإله بنكيران، الذي طمْأنَ المغاربة إلى أنه سيطبق برنامجه الحكومي على أرض الواقع. وسيكون للمجتمع المدني، هو الآخر، دور كبير في محاربة الفساد، باعتباره قوة اقتراحية داخل المشهد السياسي في البلاد. وقد أخذت اللجنة الاستشارية المكلفة بإعداد الدستور اقتراحاته. ويعتبر السباعي أن الجمعيات النشيطة ستدفع بالبلاد نحو محاربة الفساد، مؤكدا أن المطلب الرئيسي للهيئة الوطنية لحماية المال العام بالمغرب هو أن يصبح المجلس الأعلى للحسابات «محكمة جنائية» في البلاد وتسند إليه مهام ذات طبيعة متعلقة بقضايا الفساد وجرائم الأموال.