الفيتو الروسي الصيني المزدوج الذي استخدم في مجلس الأمن الدولي مساء يوم السبت لعرقلة مشروع قرار غربي عربي يطالب بتنحي الرئيس بشار الأسد وحقن الدماء في سورية، هو نقطة تحول مفصلية في العلاقات الدولية وبداية صفحة جديدة من حرب باردة من نوع مختلف. من استخدم حق النقض «الفيتو» لم يستخدمه انتصارا للرئيس الأسد ولا حرصا على سورية، فليس في سورية نفط ولا ودائع مالية بمئات المليارات، وإنما تأسيسا لنظام عالمي جديد متعدد الأقطاب وصعود قوى عظمى جديدة، اقتصاديا وعسكريا، تريد وضع حد للهيمنة الأمريكيةالغربية على مقدرات العالم. عالم اليوم، الذي يطل برأسه، بقوة لا تحكمه العواطف ولا المبادئ والقيم بقدر ما يحكمه الاقتصاد والرغبة في النفوذ. وليس صدفة أن الدول التي وقفت في وجه المشروع العربي الغربي في مجلس الأمن الدولي هي خمس دول (روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا) تعتبر الآن الاقتصادات الصاعدة في الوقت الراهن، ثلاث منها أعضاء في تجمع الدول الصناعية الثماني الكبرى (روسيا والصين والبرازيل والأخيرة أزاحت بريطانيا من المركز السادس كأقوى اقتصاد في العالم)، والدول الخمس ممثلة في نادي الدول العشرين. جامعة الدول العربية ارتكبت خطيئة كبرى عندما تجاهلت الخريطة الجديدة لمراكز القوة في العالم، وتعاطت باحتقار مع الدول الخمس المذكورة، وخاصة الصين وروسيا، فقد كان محتما عليها التنسيق مع هذه الدول واحترام كرامتها ومصالحها في آن، وهي دول وقفت دائما إلى جانب القضايا العربية العادلة، وقضية الصراع العربي الإسرائيلي على وجه الخصوص، ولكن يبدو أن الجامعة في عصرها الجديد نسيت هذه القضايا تماما، وبدأت تتنكر لأصدقاء العرب وتتودد لأعدائهم. من المؤكد أن المعارضة السورية منيت بصدمة كبرى من جراء هذا الفيتو الصيني الروسي المزدوج، فقد راهنت كثيرا على ورقة «التدويل»، واستصدار قرار أممي يفتح الباب على مصراعيه أمام التدخل الأجنبي العسكري لوضع حد لجرائم النظام، على غرار ما حدث في ليبيا، ولكن النتائج جاءت مفاجئة تماما، وعادت الأزمة السورية إلى المربع الأول مجددا، مربع القتل والمجازر، وما حدث في مدينة حمص ليلة التصويت في مجلس الأمن (300 قتيل، جميعهم من المدنيين العزل) هو دليل بارز في هذا الإطار. السوريون يدفعون من دمائهم وأرواحهم ثمن قرار مجلس الأمن بإعطاء الضوء الأخضر لتدخل حلف الناتو في ليبيا، وإصرار الصين وروسيا على استخدام «الفيتو المزدوج» يوم أمس الأول (يقصد السبت) لإفشال مشروع القرار العربي الغربي، رغم أن «فيتو» واحدا يكفي، هو رغبة في الانتقام من الإهانة التي تعرضت لهما الدولتان على يد أمريكا وحلفائها الأوربيين والعرب، عندما صدقوا وعود هؤلاء بأن القرار 1973، الذي امتنعتا عن التصويت معه أو ضده، كان مصيدة، الهدف منها تغيير النظام وليس حماية المدنيين فقط. العقيد معمر القذافي خسر حكمه وانتهى نهاية دموية غير مسبوقة، ليس لأنه ديكتاتور ظالم يتزعم نظاما فاسدا، فهناك أنظمة عربية أكثر فسادا وديكتاتورية وقمعا وتخلفا من نظامه، وإنما أيضا لأنه أعطى معظم عقود استكشاف النفط وبناء البنى التحتية الليبية للصين وروسيا والهند، وبدرجة أقل للبرازيل وجنوب إفريقيا، وليس للدول الغربية وبعض العربية. لا أحد يعير ليبيا أي اهتمام حاليا، ولم يجتمع وزراء خارجية أصدقاء ليبيا مرة واحدة منذ الإطاحة بنظام القذافي، وهم الذين كانوا يجدون الوقت للاجتماع كل أسبوع في هذه العاصمة أو تلك، رغم تدهور الأوضاع على الأرض وهيمنة الميليشيات المتطرفة والتناحر الدموي بينها، فقد قالوا لنا إنهم تعلموا من أخطائهم في العراق، ووضعوا خطة لليبيا بعد إطاحة النظام لمنع الفوضى والإرهاب، لنكتشف أنه لا توجد هناك خطة ولا هم يحزنون، فطالما أن النفط يتدفق إلى مصافيهم والودائع (200 مليار دولار) في بنوكهم، فليقتل الليبيون بعضهم البعض. يخطئ النظام السوري إذا اعتقد أن هذا «الفيتو المزدوج» هو ضوء أخضر له لمواصلة استخدام حلوله الأمنية الدموية وارتكاب مجازر في حق الأبرياء، مثلما حصل في حمص، بل هو مقدمة لوضعه بقوة تحت الوصاية الروسية الصينية وسلبه قراره المستقل في التعامل بدموية مع الثائرين ضده. الوفد الروسي بزعامة سيرجي لافروف، وزير الخارجية، وعضوية قائد المخابرات العسكرية، الذي سيحط الرحال في دمشق يوم الثلاثاء (يقصد أمس)، لا يذهب إلى هناك من أجل الكبة الحلبية أو هربا من صقيع موسكو إلى دفء سورية وشمسها الساطعة، وإنما سيأتي حاملا سلسلة من الإملاءات وخريطة طريق مفصلة لما يجب أن يفعله النظام من إصلاحات حقيقية، وبتعليمات صريحة بوقف آلة القتل فورا. النظام السوري لن يكون في موقع المناورة والتهرب من الإصلاح، مثلما فعل طوال الأشهر الماضية من عمر الانتفاضة، فروسيا، مثلما قال وزير خارجيتها قبل يومين، ليست حليفة ولا صديقة لنظام الرئيس بشار الأسد، وإنما صديقة لسورية وحريصة على مصالحها فيها، ابتداء من قاعدة طرطوس الوحيدة في المنطقة، والحفاظ على سرية أسلحتها المتقدمة التي قدمتها إلى النظام ولم تقدم مثيلاتها إلى غيره، والحيلولة دون وقوعها في أيدي نظام موال للغرب يقدمها وأسرارها على طبق من ذهب إلى أمريكا وأجهزتها الأمنية، وأبرز مثال على هذه الأسلحة صواريخ «إس 300» المضادة للطائرات التي حجبتها موسكو عن إيران، خضوعا لضغوط وإغراءات أمريكية قبل الأزمة السورية، بسبب دقتها المطلقة. يجب أن يدرك النظام السوري، والأنظمة العربية جميعا في المنطقة، أن الأسابيع والأشهر المقبلة قد تحمل الأسوأ للجميع، ولا نستبعد أن يكون الاستعجال في تدويل الأزمة السورية، وبهذه الطريقة غير المدروسة، هو محاولة لإغلاق هذا الملف بطريقة أو بأخرى من أجل التركيز على ملف أكثر سخونة وأهمية، وهو الملف الإيراني، وقد يكون استخدام الفيتو المزدوج هو رسالة لأمريكا وإسرائيل وبعض العرب تقول إن إيران لن تقف وحيدة في مواجهة المخططات الإسرائيلية لقصفها. أمريكا ومعها الأوربيون والعرب قد لا يبتلعون هذه الهزيمة بسهولة، وهذا حقهم، ولا نستبعد تصعيدا خطيرا للوضع الأمني، من حيث دعم المعارضة الداخلية، والجيش السوري الحر، وتهريب كميات كبيرة من الأسلحة والمتطوعين، لاستنزاف النظام وتقويض قاعدتيه الأمنية والعسكرية. الحل في سورية سياسي، ولم يفت الوقت بعد، وخريطة الطريق التي يحملها لافروف غدا (يقصد أمس الثلاثاء) تشكل عجلة إنقاذ للنظام ولروسيا وللجامعة العربية أيضا، والعناد قد يؤدي إلى كارثتين معا، الحرب الأهلية التي ستجر المنطقة إلى حرب، وسيكون السوريون جميعا ومن خلفهم العرب هم الخاسر الأكبر. مجزرة واحدة أخرى يرتكبها النظام ستكون بداية النهاية له، حتى لو جاءت ردا على استفزاز من هنا أو هناك، فالشعب، الذي صمد عشرة أشهر وقدم ستة آلاف شهيد حتى الآن، لن يتوقف في منتصف الطريق، وإذا كان الرئيس حافظ الأسد تمكن من الاستمرار في الحكم بعد مجزرة حماة عام 1982 فإن نجله الرئيس بشار لن يستمر، فالظروف تغيرت والشعب السوري أيضا.