لم يعد مقبولاً تأجيل المواعيد بهذا النوع من الاستهتار. كل شيء عندنا مُؤجَّل، ولا شيء تَمَّ إنجازه في موعده، وكأن الزمن واقِفٌ لا يتحرَّك، والتقدُّم لن يحدثَ إلا حين نشرع نحن في السير نحو المستقبل. كل شيء بهذا المعنى هو محض عبثٍ وهَذر للوقت والجُهد واستخفاف بحاجة الناس إلى مجتمع يَقِظ، مُتحرِّك، يسير نحو المعرفة والرَّفاه، أو، في أقل تقدير، نحو تعليمٍ متوازن ومنتج وعيش كريم، يضمن فيه الإنسان حقه في الشغل وفي السكن. لم نصل إلى هذه الانتظارات، ما جعل مجتمع المعرفة والرَّفاه يبقى مجرَّد تمَنٍّ أو حُلم بعيد المنال. المدرسة، وهو ما يسري على الجامعة، التي تعيش منفصلةً عن محيطها الثقافي، لم تعد تعنيها المعرفة في شيء. لا وجود لمكتباتٍ تتِيح للتلاميذ توسيع معارفهم وتساعدهم على القراءة والبحث، لم تعد المراجع المتوفرة في مكتبات بعض المؤسسات التعليمية تُلبي حاجات التلاميذ، وهو ما يمكن تعميمه على مكتبات الجامعات. ليست هناك ضمن المقررات المدرسية أو المواد المُدَرَّسة مادة خاصة بالمكتبات وبالكتب يمكنها أن تكون بمثابة حافز لوضع التلاميذ والطلبة في سياق المكتبة وحفزهم على مصادقة الكتاب أو مصافحته على الأقل. الدروس المقررة جافة وغير مُشَجِّعَة، وطرق تدريسها تزيد من مضاعفة هذا الجفاف، ولا مجال للحديث عن المُدَرِّسين باعتبارهم «وُسطاء» بين التلاميذ أو الطلبة والمواد المُدَرَّسَة. سيفضي هذا الوضع إلى وضع «الأدب»، بشكل خاص، والعلوم الإنسانية بشكل عام، في موقف صعب. ولعل في الاجتماع الأخير، الذي عُقِد يوم 23 دجنبر 2011 في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط، حول إعادة هيكلة البحث العلمي ما يوضح طبيعة هذا الوضع ويجعل «الشعور العام» للمشاركين في الاجتماع يكون متشائماً، «لاسيما في مجال الآداب والعلوم الإنسانية». وما كشف عنه التقرير المنشور من مؤشراتٍ لهذا الوضع يكفي ليضعنا أمام ما يعانيه البحث العلمي عندنا من تخلُّف ومن انتكاسٍ لم تنفع معهما كل الإصلاحات، التي كانت، بدورها، «تأجيلاً» آخر، ضاعف من وتيرة التأجيلات التي ما تزال الدولة تراكمها في مجالي التعليم والبحث العلمي وفي درجة اهتمامها بالشأن الثقافي، إجمالاً. أن نُفَكِّر في مجتمع المعرفة أو نُفكر في اقتصاد المعرفة، وفق ما هو جارٍ اليوم في كثير من الدول التي أولت هذا الموضوع ما يكفي من المال والجُهد والإرادة السياسية القوية فهذا أمر يحتاج منا، أولاً، أن نخرج من وضع التأجيل هذا الذي بات إحدى أبرز خصوصيات سياسة الدولة المغربية، وأن نعمل على وضع المال في سياقه الصحيح، أعني سياق الاستثمار المعرفي. فمجتمع بتعليم معطوب هو مجتمع «أعمى»، ما يراه من ضوء هو محض سرابٍ. ومجتمع بدون جامعة تتوفر فيها كل شروط البحث العلمي، من مكتبات وأطُر شابة جديدة ونُخَب ذات تكوين علمي عالٍ وتتميز بالخبرة في مجال عملها لن تكون جامعة مُنْتِجَة أو مُؤَهَّلة لإفراز نُخَب قادرة على القيادة والتدبير أو على نقل المعرفة وتجديدها. الجامعة، وهو ما ينطبق على المدرسة، هنا أيضاً، تعيش، اليوم، على التكرار وعلى الاجترار، أما الابتداع أو الابتكار، الذي هو أحد مهمات المعرفة والبحث العلمي، فلم يعد موجوداً، إلاَّ في حدود ضَيِّقة.