العلوم الإنسانية هي مجال من المعرفة البشرية، يتخذ من الظواهر الإنسانية موضوعا له. وقد ظهرت في مناخ معرفي مشبع بقيم العقلنة، بما هي علم وتحكم، فالثورات العلمية والصناعية والاقتصادية والسياسية التي شهدتها المجتمعات الحديثة أثرت بشكل جذري في أسلوب الحياة التقليدي ودفعت الإنسان لنهج سلوكات جديدة كليا، محاولة منه للتكيف مع إيقاع الحياة السائر في طريق التعقيد، وبالتالي أدى هذا إلى ظهور ظواهر إنسانية جديدة، خصوصا مع تراجع دور المؤسسات التقليدية في الحياة العامة.. فعالم الإنسانيات منذور ليفكك ويحلل ويدرس كافة تفاصيل الحياة المجتمعية والنفسية والثقافية والسياسية وغيرها... اعتبارات كثيرة تفرض التفكير، اليوم، بجدية في تأسيس مؤسسات للبحث العلمي في العلوم الإنسانية، فالعديد من التحولات تعرفها الشخصية المغربية تفرض النظر العلمي، وهذه محاولة لرصد بعض هذه التحولات. صحيح أن محاولة المرء رسم بورتري يرصد مختلف التحولات التي تشهدها شخصية المغربي، خارج مختبرات البحث في العلوم الإنسانية، أمر صعب ومطباته كثيرة وتوجب عوائقه الاحتراز فيها ومنها، خصوصا مطبي التعميم وأحكام القيمة، فبعيدا عن بارانويا العظمة أو نقيضه بارانويا الاضطهاد، واللذين يحضران معا في صورة المغربي عن نفسه، وقريبا من معطيات الواقع الموضوعي، كما تتبدى في أشكال المواقف والانفعال والوجدان، التي يأتيها المغربي اليوم، فإن العقدين الأخيرين شهدا ظهور بنية من الظواهر السلوكية الجديدة، والتي استدمجت في الممارسات اليومية للمغربي وأصبحت جزءا من هويته التطابقية، والأهم هو قدرة المغربي اليوم على خلق الوحدة والتساكن بين ممارسات سلوكية متناقضة دون عقدة، تماما كما يجمع الكسكس والكوكاكولا، الحجاب والدجينز، الهاتف النقال ورنة القرآن الكريم... إنها بعض «ملامح» المغربي الجديد. غالبا ما لا يتم الانتباه إلى أن هذا التساكن بين المتناقضات في هوية الفرد الواحد هو علامة دالة على مغرب شعبي يتحول بشكل متسارع، في غفلة من أجهزة الرقابة والتنشئة الرسميين، في أحايين كثيرة. صحيح أن البعض يسمي هذا التساكن بين الأضداد تنوعا واختلافا، وآخرون اعتدالا وتوفيقا.. لكن الأهم هو أن نعترف بأن المغربي يتغير بوتيرة أسرع، من مقولات السياسة وبرامج التنمية، فهو ليس معطى قبليا بديهيا ثابتا قابلا للتعليب في مقولات ثابتة ونهائية، لذلك سنكتفي بتناول ثلاثة معالم فقط من بورتري الشخصية المغربية، احتراما لما يسمح به الحيز: أولا، في موضوع الشأن العام، يجمع المغاربة على احتقار الفساد الإداري والرشوة والزبونية وغيرها من موبقات الإدارة المغربية اليوم، لكن خلف التصنيفات المخجلة التي تعطى للمغرب عالميا في الموضوع، يظهر أن خلف هذه الأحكام المعبر عنها هناك نزوع شبه عام، لتبرير الوساطات والتوسلات وأشكال المحسوبية، وإن كانت تعطاها تعبيرات لغوية للتخفيف من طابعها المرفوض أخلاقيا ودينيا، ك«الحلاوة» و«القهوة» في الرشوة، و«الركيزة» و«الكالة» في الزبونية... فحتى عندما تكون السبل القانونية فعالة ومضمونة، فإن المغربي اليوم يبذل جهدا مضاعفا للحصول على وساطات يرشيهم ويتوسل إليهم... ما دام لا يملك الثقة في السبل القانونية السهلة، ولمن شك في الأمر، ننصحه بالذهاب إلى قنصليات الدول الأجنبية في المغرب، ناهيك عن الصحة والفلاحة والعقار والجماعات المحلية، وهنا أتذكر حادثة طريفة ذات دلالة في هذا المقام، وهي أن قروي أحضر بقرته إلى المصالح البيطرية في أحد المراكز الفلاحية في مدينة الصويرة، ففحص التقني البقرة ورفض الرشوة التي قدمها له القروي، الأمر الذي دفع هذا الأخير إلى الشك في كون نتيجة الفحص التي أعطاها إياه التقني «سليمة»... فاضطر إلى أن يذهب ببقرته إلى مركز في بلدة أخرى، ولم يطمئن حتى حصل تقني المركز الآخر على الرشوة، ليتأكد القروي أن نتيجة الفحص «سليمة»... ثانيا، في موضوع التدبير الإداري، المغربي شخصية خُلِقت ل«الانتظار»، انتظار الأوامر وليس شخصية المسؤولية، وهو على استعداد لأن يرى الكوارث تقع أمام أعينه وانتظار ما لا نهاية له من الوقت، ما لم تصدر له الأوامر المكتوبة، وهنا نعطي مثال ما وقع في زلزال الحسيمة، فرغم فداحة الخسائر وتوفر المساعدات الأجنبية، من مواد تموينية وأطقم للإغاثة، فإن ذهنية «انتظار» التعليمات دفعت أطقما متخصصة جاءت للمساعدة من ألمانيا وفرنسا وإسبانيا إلى الانتظار في مطاري العروي ووجدة -أنجاد، دون أن يجدوا حتى من يتحمل مسؤوليته ويكلمهم ولو بكلمة واحدة، فلم يجدوا بدا من الرجوع إلى بلدانهم، ونفس الشيء في توزيع المساعدات.. فالمواطنون كانوا يعانون، أما المسؤولون ف«ينتظرون الأوامر»، الأمر الذي فرض تدخلا شخصيا للملك في حينه، لوضع حد لهذا الوضع. ثالثا، على المستوى الأخلاقي، رغم بؤر المحافظة التي ظهرت في المغرب ورغم النزوع الجديد إلى التدين في صفوف الشباب، فإن كل هذا لم يمنع من أن يكون عموم المغاربة محتضنين لتناقضات، وهم على استعداد لتبريرها، فإذا أخطؤوا في القول اعتبروا «اللسان ما فيه عظم»، وإذا استسلموا لنزواتهم العابرة، طلبوا من «الله يْرحم ضعفْنا»... إذا أدمنوا التدخين أو غيره: «اللهْ يْعفو عْلينا»... فهم «الضحية» دوما، فالقطار هو الذي «مْشى عْليهومْ» وليس هم من تأخروا، والنوم هو الذي «غدْر بهم» وليسوا هم من «غرقوا» في النوم... والجرائم التي يرتكبها البعض منهم «كتابْت عْليهومْ»... وأغلب السكارى منهم يبكون، لا يتزوج منهم الشاب صديقته إلا فيما ندر، ف«معايير» الزوجة ليست هي معايير الصديقة عندهم، وإذا طلب أحدهم ود المطلقة فللحرام... ماضي الرجل عندهم «شرف» له وماضي المرأة «تهمة» توجب التقصي... ذهنية الفروسية و«التبوريدة» ما زالت تطبع سياقتهم للسيارات والدراجات النارية... هذه فقط بعض ملامح شخصية المغربي اليوم، صحيح أن التعميم صعب والنسبية واردة، لكن قليل من دقة الملاحظة كاف لاستنتاج أننا بصدد مغربي في طور التحول... فهل يعي صناع القرار عندنا هذا الأمر؟!... تخصص العلوم الإنسانية في التعليم تخصيص مسلك للعلوم الإنسانية في التعليم الثانوي وفي الأقسام التحضيرية في المغرب خطوتان تحسبان لعشرية الإصلاح، فما يشهده المغرب الشعبي من تحولات عميقة، خصوصا على المستويين الأخلاقي والاجتماعي، يفرض إعادة النظر في مقارباتنا القديمة، القائمة على الكتمان والتستر غالبا، وعلى الزجر والمقاربة الأمنية، في حالات أخرى، لكن لا الكتمان ولا الزجر أتاحا لنا حلولا لمجمل الاختلالات السلوكية التي يطفح بها المجال العمومي المغربي، والتي تحولت من سلوكات فردية معزولة في مغرب ما قبل التسعينيات، لتصبح، اليوم، «ظواهر»، بكل ما يحمل هذا المفهوم من معان في العلوم الإنسانية... فارتفاع نسبة المصابين بالأمراض النفسية والعصبية، ارتفاع حالات زنا المحارم، ظاهرة «وكالين رمضان»، ظاهرة العزوف السياسي، ظاهرة حوادث السير، الظواهر الحزبية، ظاهرة تخريب المرفق العمومي وظاهرة الدعارة الشاذة... كلها ظواهر تعطي، بالملموس، الدليل على أننا إزاء شخصية مغربية لم تعد «بسيطة». فكل يوم، يفاجئنا المغربي بقدرته على إتيان سلوكات يستحيل على الأجيال السابقة التفكير فيها، ونكاد نجزم، اليوم، أنه لا يوجد سلوك إلا وتجد للمغاربة منه نصيبا، من أقصى الخير إلى أقصى الشر... وبالتالي، فالتوجه لإدراج العلوم الإنسانية ضمن التخصصات المدرسية والجامعية له اليوم ما يبرره، لأن هذا المجتمع ليس فقط في حاجة إلى رجال الأمن ورجال الوعظ والقضاة، لمواجهة هذه الظواهر، بل هو في حاجة إلى رجال علم يقطعون مع تحليلات الحس المشترك لهذه الظواهر، رجال يستبدلون العين البيولوجية بالعين المنهجية في قراءة التغيرات والتحولات التي تعصف بنسق مجتمعنا أو تعتمل في أعماقه. في ما يخص التوجه نحو تخصص العلوم الإنسانية في التعليم الثانوي، فإنه يُلاحَظ أن أغلب التلاميذ الذين يختارون هذا التخصص هم أضعف التلاميذ، وهذه حقيقة يتفق حولها كل مدرسي هذا التخصص، فأغلبهم ضعاف في اللغات، الإنجليزية واللغة العربية خاصة، لذلك لا يختارون تخصص آداب، وطبعا هم ضعاف في المواد العلمية، ولنا أن نتصور تلميذا لا يملك الحس العلمي ولا يمتلك أي رصيد لغوي، كيف سيكون مستواه الدراسي؟ لذلك يتم تسجيل أضعف مستويات النجاح وطنيا في هذا التخصص، بنسبة لا تتعدى 30 في المائة، فهم مجبَرون على اجتياز امتحان وطني في مادة الفلسفة، وهي مادة تفترض عُدّة منهجية ومعرفية لا تتوفر عند غالبية تلاميذ هذا التخصص، لذلك لا عجب أن أغلب المدرسين يعتبرون هذا التخصص تخصصَ من لا تخصص له... فرغم الرهانات الكبيرة التي تم تسطيرها لهذا التخصص، فإن واقع الحال يعكس تخصصا ضعيفا، ضعيفا بتلامذته، ضعيفا بآفاقه، التي لا تعطي لتلميذ العلوم الإنسانية أي امتياز مستقبلي، إذ إن اختياراته الجامعية محدودة... أما تخصص العلوم الإنسانية في الأقسام التحضيرية فإنه يطرح، بدوره، مشكلة، فرغم أهمية البرامج وطرق التدريس المعتمَدة في هذه الأقسام، فإن أغلب المتخرجين منها مجبرون على اختيار مهنة التدريس، مما يعطي الانطباع بأن «الباحث في العلوم الإنسانية» مقر عمله هو القسم، مع أن مغرب اليوم، وبالقياس إلى ما قلناه سابقا، في حاجة إلى باحثين في العلوم الإنسانية في كل الإدارات والمرافق العامة، في الإدارة والمدرسة، في المقاولة والمصنع، في المحاكم والسجون، ففي كل البلدان المتقدمة، يطلب قضاة قضاء الأسرة من الأزواج المتخاصمين أو المهملين لأبنائهم اللجوء إلى دعم نفسي، وهم مجبرون على حضور جلسات منتظمة مع متخصصين نفسانيين واجتماعيين، فالأحكام الزجرية لا تحل أغلب المشاكل الأسرية والاجتماعية والنفسية، بل أحيانا تزيدها تفاقما، وقديما قيل «الوقاية خير من العلاج»... فلو أن الدولة اعتمدت إستراتيجية وطنية للاستشارة النفسية مثلا، فإنها من الناحية المادية ستربح مصاريف التغطيات الصحية الناجمة عن الاختلالات النفسية وكذا مصاريفها عن مؤسسات السجون والإصلاحيات. وتعتبر الولاياتالمتحدةالأمريكية «نموذجا» يحتذى به في هذا المجال، فهي تصرف 13 دولارا على الفرد في مختلف الاستشارات النفسية، لتربح أكثر من 50 دولارا في ميزانية السجون والمخافر، ناهيك عن الميزانية الضخمة التي يخسرها المجتمع ككل، في حالة تفاقم الحالة النفسية لأحد أعضائه. بمعنى أن الحاجة إلى باحثين في العلوم الإنسانية هي حاجة مجتمعية وليست فقط حاجة تربوية، ففي المدارس مثلا، ورغم الأفكار التي تم تبنيها في الحياة المدرسية، مثل «الأستاذ الكفيل» و»لجنة الإنصات»، والتي لم يتم تفعيلها على نطاق واسع، لأسباب تتعلق بإثقال البرامج الدراسية كاهلَ المدرسين من جهة، ولمقاومة الأسر من جهة ثانية، فإن الإدارة التربوية ما تزال تتعامل بطريقة غير علمية مع السلوكات «غير المرغوب فيها» لدى تلامذة التعليم الثانوي، وبعض المدرسين يزيدون الأمر تفاقما، فبدل التعامل العقلاني والعلمي مع الظواهر السلوكية المرتبطة بسن المراهقة، والتي يمر منها كل تلامذة التعليم الثانوي، فإنه غالبا ما يتم اللجوء إلى الطريق السهل، وهو «طرد» التلميذ، أحيانا، لأسابيع، لمجرد أن المدير لم تعجبه تسريحة شعر تلميذ أو أن المدرس لم تعجبه طريقة جلوس تلميذة... وهذا يحيل على قضية أخرى، وهي أنه ليس فقط التلاميذ من يحتاجون إلى استشارات نفسية، بل وبعض المدرسين وبعض أطر الإدارة التربوية أيضا، وللموضوع صلة...