العلوم الإنسانية هي مجال من المعرفة البشرية، يتخذ من الظواهر الإنسانية موضوعا له، وقد ظهرت في مناخ معرفي مُشبَع بقيم العقلنة، بما هي علم وتحكم، فالثورات العلمية والصناعية والاقتصادية والسياسية، التي شهدتها المجتمعات الحديثة، أثّرت، بشكل جذري، في أسلوب الحياة التقليدي ودفعت الإنسان إلى نهج سلوكات جديدة كليا، محاولة منه للتكيُّف مع إيقاع الحياة السائر في طريق التعقيد، وبالتالي أدى هذا إلى بروز ظواهر إنسانية جديدة، خصوصا مع انحصار دور المؤسسات التقليدية في الحياة العامة... فعالم الإنسانيات منذور ليفكك ويحلل ويدرس كافة تفاصيل الحياة المجتمعية والنفسية والثقافية والسياسية وغيرها. في المغرب، تخصيص مسلك للعلوم الإنسانية في التعليم الثانوي، وفي الأقسام التحضيرية، خطوة تُحسب لعشرية الإصلاح، فما يشهده المغرب الشعبي من تحولات عميقة، خصوصا على المستويين الأخلاقي والاجتماعي، يفرضان إعادة النظر في مقارباتنا القديمة القائمة على الكتمان والتستر، غالبا، والزجر والمقاربة الأمنية في حالات أخرى، لكنْ لا الكتمان ولا الزجر أتاحا لنا حلولا لمجمل الاختلالات السلوكية التي يطفح بها المجال العمومي المغربي، والتي تحولت من سلوكات فردية معزولة في مغرب ما قبل التسعينيات، لتصبح اليوم ظواهر بكل ما يحمله هذا المفهوم من معانٍ في العلوم الإنسانية... فارتفاع نسبة المصابين بالأمراض النفسية والعصبية، ارتفاع حالات زنا المحارم، ظاهرة «وْكّالينْ رمضان»، ظاهرة العزوف السياسي، ظاهرة حوادث السير، الظواهر الحزبية، ظاهرة تخريب المرفق العمومي، ظاهرة الدعارة الشاذة... كلها ظواهر تعطي، بالملموس، الدليلَ على أننا إزاء شخصية مغربية لم تعد بسيطة. فكل يوم، يفاجئنا المغربي بقدرته على إتيان سلوكات يستحيل على الأجيال السابقة التفكير فيها، ونكاد نجزم اليوم، أنه لا يوجد سلوك إلا وتجد للمغاربة منه نصيبا، من أقصى الخير إلى أقصى الشر... وبالتالي، فالتوجه إلى إدراج العلوم الإنسانية ضمن التخصصات المدرسية والجامعية له اليوم ما يبرره، لأن هذا المجتمع ليس فقط في حاجة إلى رجال الأمن ورجال الوعظ والقضاة، لمواجهة هذه الظواهر، بل في حاجة إلى رجال علم يقطعون مع تحليلات الحس المشترَك لهذه الظواهر، رجال يستبدلون العين البيولوجية بالعين المنهجية في قراءة التغيرات والتحولات التي تعصف بنسق مجتمعنا أو تعتمل في أعماقه. في ما يخص التوجُّه إلى تخصص العلوم الإنسانية في التعليم الثانوي، فإنه يلاحَظ أن أغلب التلاميذ الذين يختارون هذا التخصص هم أضعف التلاميذ، وهذه حقيقة يتفق حولها كل مُدرِّسي هذا التخصص، فأغلبهم ضعاف في اللغات، الإنجليزية والعربية خاصة، لذلك لا يختارون تخصص آداب، وطبعا ضعاف في المواد العلمية. ولنا أن نتصور كيف سيكون المستوى الدراسي لتلميذ لا يملك الحس العلمي ولا يمتلك أي رصيد لغوي؟!.. لذلك، يتم تسجيل أضعف مستويات النجاح، وطنيا، في هذا التخصص، بنسبة لا تتعدى 03 في المائة، فهم مُجبَرون على اجتياز امتحان وطني في مادة الفلسفة، وهي مادة تفترض عُدّة منهجية ومعرفية لا تتوفر لدى غالبية تلاميذ هذا التخصص، لذلك لا عجب أن أغلب المدرسين يعتبرون هذا المسلك «تخصُّصَ من لا تخصص له»! فرغم الرهانات الكبيرة التي تم تسطيرها لهذا التخصص، فإن واقع الحال يعكس تخصصا ضعيفاً، بتلامذته وبآفاقه، التي لا تعطي لتلميذ العلوم الإنسانية أي امتياز مستقبلي، فاختياراته الجامعية محدودة... أما تخصص العلوم الإنسانية في الأقسام التحضيرية، فإنه يطرح، بدوره، مشكلة، فرغم أهمية البرامج وطرق التدريس المعتمَدة في هذه الأقسام، فإن أغلب المتخرجين منها مجبَرون على اختيار مهنة التدريس، مما يعطي انطباعا بأن مقرَّ عمل «الباحث في العلوم الإنسانية» هو القسم، مع أن مغرب اليوم، وبالقياس إلى ما قلناه سابقا، في حاجة إلى باحثين في العلوم الإنسانية في كل الإدارات والمرافق العامة، في الإدارة والمدرسة، في المقاولة والمصنع، في المحاكم والسجون... ففي كل البلدان المتقدمة، يطلب قضاة قضاء الأسرة، مثلا، من الأزواج المتخاصمين أو المهمِلين لأبنائهم اللجوء إلى دعم نفسي، وهم مجبرون على حضور جلسات منتظمة مع متخصصين نفسانيين واجتماعيين، فالأحكام الزجرية لا تحل أغلب المشاكل الأسرية والاجتماعية والنفسية، بل أحيانا تزيدها تفاقما، وقديما قيل «الوقاية خير من العلاج». فلو أن الدولة اعتمدت استراتيجية وطنية للاستشارة النفسية، مثلا، فإنها، من الناحية المادية، ستربح مصاريف التغطيات الصحية الناجمة عن الاختلالات النفسية وكذا مصاريفها عن مؤسسات السجون والإصلاحيات. وتعتبر الولاياتالمتحدةالأمريكية نموذجا يحتذى به في هذا المجال، فهي تصرف 31 دولارا على الفرد في مختلف الاستشارات النفسية، لتربح أكثر من 05 دولارا في ميزانية السجون والمخافر، ناهيك عن الميزانية الضخمة التي يخسرها المجتمع، ككل، في حالة تفاقم الحالة النفسية لأحد أعضائه، بمعنى أن الحاجة إلى باحثين في العلوم الإنسانية هي حاجة مجتمعية وليست فقط حاجة تربوية، ففي المدارس، مثلا، ورغم الأفكار التي تم تبنيها في الحياة المدرسية، مثل «الأستاذ الكفيل» و«لجنة الإنصات»، والتي لم يتمَّ تفعيلها على نطاق واسع، لأسباب تتعلق بثقل البرامج الدراسية على كاهل المُدرِّسين، من جهة، ولمقاومة الأسر، من جهة ثانية، فإن الإدارة التربوية ما تزال تتعامل بطريقة غير علمية مع السلوكات «غير المرغوب فيها» لدى تلاميذ التعليم الثانوي، ويزيد بعض المدرسين الأمر تفاقما، فبدل التعامل العقلاني والعلمي مع الظواهر السلوكية المرتبطة بسِن المراهقة، والتي يمر منها كل تلاميذ التعليم الثانوي، فإنه غالبا ما يتم اللجوء إلى الطريق السهل، وهو طرد التلميذ لأسابيع أحيانا، لمجرد أن المدير لم تعجبه تسريحة شعر تلميذ أو أن المدرس لم تعجبه طريقة جلوس تلميذة... ويحيل هذا إلى قضية أخرى، وهي أنه ليس فقط التلاميذ من يحتاجون استشارات نفسية، بل حتى بعض المدرسين وبعض أطر الإدارة التربوية، أيضا...