ظهرت العلوم الاجتماعية في القرن التاسع عشر في سياق التأثر الذي لحقها من جراء التطور الهائل الذي هم العلوم الحقة (الدقيقة ) ولهذا نجد أوكيست كونت مؤسس علم الاجتماع يسمي هذه العلوم وخصوصا علم الاجتماع بفيزياء اجتماعية داعيا إلى تبني المنهج الفزيائي لاستخدامه في العلوم الاجتماعية .وقد سار على نفس النهج عالم الاجتماع الفرنسي ايميل دوركايم الذي تاثر هو الآخر بالفلسفة الوضعية ، وصاغ نظريته وفقا لهذه الموجة التي اجتاحت الفكر الغربي في هذه المرحلة التاريخية . ولعل المطلع على مؤلفات ايميل دوركايم خصوصا كتابه قواعد المنهج في علم الاجتماع يتبين لديه التصور الوضعي في مقاربة الظواهر الإنسانية ، من ذلك ما كان يؤكد عليه هذا السوسيولوجي في أن التعامل مع الظاهرة الاجتماعية يجب أن يكون من منطلق مادي ، فالظاهرة الاجتماعية شيء من الأشياء ،أي أن التعامل معها يجب أن يكون بموضوعية ، ومعنى ذلك أن عالم الاجتماع يجب عليه ان يفصل في تحليله للظواهر بين ما هو واقعي مادي وبين ما هو معياري يتضمن قيمة من القيم ، ولهذا تم استلهام المنهج التجريبي الإمبيريقي في تحليل الظواهر الاجتماعية والإنسانية ، رغم أنه كان يطبق على الظواهر الطبيعية والمادية. من خلال ذلك تستحثنا عدة أسئلة عن الأسباب العميقة التي أدت إلى ظهور علوم اجتماعية شكلت قطيعة ايبيستيمولوجية مع القيم المتضمنة في كل الظواهر الاجتماعية ، هذا مع العلم أنه لا وجود لظواهر اجتماعية بمعزل عن عمقها القيمي ؟ من جهة أخرى كيف يمكن الحديث عن علوم اجتماعية تقترب من الموضوعية والعلمية ، وتتخذ مناهج وأطر نظرية ومفاهيمية في تغييب تام لفلسفة قيمية موجهة ومعيارية تحكم البراديغم الذي ينطلق منه الباحث في هذه العلوم ؟ ترتبط أولى الإشكالات التي تعترض العلوم الاجتماعية بالسياق التاريخي لنشأتها ، فهذه العلوم خرجت من عباءة فلسفة الأنوار بمختلف تطلعاتها التاريخية ، التي جعلت من الإنسان إيديولوجيتها الكبرى ، كانت مرتهنة لمصالح اجتماعية معينة .فعلم الاجتماع على سبيل المثال ، قد نشأ في الأصل باعتباره سلطة معرفية سخرتها الطبقة البورجوازية الصاعدة من أجل التحكم في سيرورة التركيبة الاجتماعية وتنشئتها . كما أن علم النفس تم توظيفه من قبل أرباب الصناعة لتحسين المر دودية ورفع الإنتاجية عبر التحكم في البواعث النفسية والسلوكية للعمال ، هذا علاوة على أن العلوم الاجتماعية استخدمت تاريخيا لتحل محل الأخلاق التقليدية للديانات القديمة ، ولهذا نجد المؤسسين لهذه العلوم يتبنون الفلسفة الوضعية كباراديغم (كتصور ) موجه لعلومهم . بالموازاة مع النشأة ، ورغم ما حققته هذه العلوم الاجتماعية من تطور ومكاسب معتبرة في دراسة وفهم وتحليل الظاهرة الإنسانية ، خلال السنين الأخيرة ، فإن العوائق المنهجية التي تظهر بين الفينة والأخرى ، تطرح اكثر من تحد ، لعل من بينها وظيفة هذه العلوم وغاياتها ؟ هل تكتفي بالدراسة والبحث بمنهج بارد غير متفاعل مع الظواهر الاجتماعية ، لان وظيفة عالم الاجتماع أو عالم النفس أو الانثروبولوجي هي الرصد والتتبع، أم أن الباحث في العلوم الاجتماعية ملزم باقتحام هذه الظواهروالتفاعل معها بهدف إحداث التغييرات المناسبة لجسر الهوة بينه وبين والواقع . وترتبط هذه الإشكالية في العمق بتصور العالم لوظيفة العلم ، ودور القيم في توجيه عمله ، وأيضا قيمة العلم بالنسبة للأخلاق . (في هذا السياق يمكن أن أشيرإلى أنه عندما كنت طالبا في مسلك علم الاجتماع كان أساتذتنا يرددون : ليس من وظيفة عالم الاجتماع تغيير الواقع ، بل عليه دراسته بكل حيادية ممكنة ، ولعل منشأ هذا التوجيه هو التأثر بطبيعة هذه العلوم التي تبلورت في سياق غربي فصل ما بين العلم والقيم ، وأنه لا تداخل بينهما ) فهل يمكن الإستمرار في هذه القطيعة غير المبررة بين العلوم الاجتماعية والقيم ؟ ألم يحن الوقت لردم هذه الهوة ، خصوصا ونحن نعاين تمزقا قيميا ينخر المجتمعات البشرية ومنها مجتمعنا المغربي ؟ أعتقد أننا في هذه الظرفية التاريخية التي نمر بها ن في أمس الحاجة لإعادة الاعتبار لدور العلوم الاجتماعية، خصوصا في ظل التحولات المجتمعية الهائلة التي تجتاحنا ،وذلك بهدف وضع هذه العلوم في خدمة السياسات العمومية والقطاع الخاص والمجتمع المدني وكل المكونات الفاعلة التي تتطلع لغد أفضل .ولن يتأتى ذلك إلا بنقاش علمي وعملي حول علاقة العلوم الاجتماعية بإشكالية القيم.