يبدو أن رياح ثورات الربيع العربي بدأت تصل إلى السودان، ولا يعني ذلك أن حراكا كالذي حدث في بعض البلاد العربية، مثل ليبيا ومصر وتونس، قد بدأ يأخذ طريقه إلى السودان، ذلك أن وصول هذا الربيع في هذه المرحلة يتركز فقط على الجوانب النظرية في إمكان أن يحدث تغير في نظام الحكم في هذا البلد، وهو أمر تستبعده السلطة السياسية التي ترى أن الربيع العربي قد حدث في السودان قبل ثلاثة وعشرين عاما هي عمر نظام الحكم القائم. وبما أن ثورات الربيع العربي أفرزت نظما إسلامية عن طريق صناديق الاقتراع، فإن المسؤولين في السودان يرون أن هذا الأمر قد تحقق في بلادهم منذ أن سيطرت ثورة الإنقاذ على الحكم، غير أن هؤلاء المسؤولين لا يوضحون ما إذا كانوا قد نجحوا في وضع مشروعهم موضع التنفيذ أم لا، ذلك أن الرئيس عمر البشير مازال يعد الناس بأن الدستور القادم سيكون دستورا يقوم على الشريعة الإسلامية، وكان هذا التصريح مفاجأة للكثيرين الذين ظنوا أن نظام الإنقاذ قد أسس بالفعل نظامه ولا يحتاج إلى أن يقدم وعودا من أجل أن ينشىء نظاما ظل يدعو إليه منذ ثلاثة وعشرين عاما، وعلى الرغم من ذلك فلا يبدو أن وعود الرئيس البشير هي التي تستقطب اهتمام المواطنين، في هذه المرحلة، ذلك أن الذي يستقطبها هو الصراع القائم على السلطة، وليس على بناء نظام الدولة الذي فشل السودان في بنائه منذ أكثر من ستين عاما، ويبدو ذلك واضحا في الجدل الدائر بين قيادة حزب المؤتمر الشعبي بقيادة حسن الترابي وقيادة الحزب الوطني الحاكم، بكون حزب المؤتمر الشعبي يقف الآن في ساحة الاتهام بأنه يخطط لانقلاب عسكري لإطاحة نظام الحكم في الخرطوم، وهو اتهام ينفيه الشيخ حسن الترابي في الوقت الذي لا يبدي فيه تعاطفه مع النظام ويريد له النهاية بثورة شعبية، وبالطبع يريد الترابي أن يكون جزءا من هذه الثورة، وهو ما يثير التساؤل: ما الجديد إذن؟ خاصة أن الكثيرين يعلمون بأن نظام الإنقاذ وصل إلى الحكم بدعم من الترابي، وأن الخلافات السياسية هي التي أبعدت الحركة الشعبية من الحكم وليس الخلافات الإيديولوجية، وبالتالي فلا معنى لأن يفكر الترابي في العودة من جديد ليبدأ مشروعا قد وصل الآن إلى مراحله النهائية، لكن الترابي يبرر عودته بأنه يريد في هذه المرة أن يصل إلى الحكم دون دعم من العسكر، أي بدون انقلاب عسكري، بعد أن أثبتت تجربته السابقة أن العسكر قد يكونون أسرع في تغيير أنظمة الحكم، ولكن ليس هناك ضمان بأن يلتزموا بتوجهات القوى الإيديولوجية التي تقف خلفهم، لكن الشيخ الترابي يعرف في الوقت ذاته أن العقبة لا تقتصر على العسكر وحدهم بكون كثير من السودانيين يعلمون بأن نظام الحكم القائم في السودان جاء بدعم من الترابي، وبالتالي المسألة لا تتعلق بتغيير الوجوه فقط بل بإقناع الشعب بأن أي تغيير في الحكم يجب أن يستند إلى توجهات حقيقية وجديدة، وذلك ما حفز الشيخ الترابي لأن يقول إنه لا يعمل في هذه المرحلة بمفرده بل هناك تسع من القوى الشعبية تعمل من أجل تغيير نظام الحكم، وإن هذه القوى يمكنها أن تعمل سويا من أجل حراك شعبي يؤدي في النهاية إلى إقامة نظام حكم جديد في البلاد. والسؤال المهم هو: هل ما يحتاجه السودان في هذه المرحلة هو فقط ثورة شعبية من أجل تغيير نظام الحكم؟ الإجابة بكل تأكيد لا، ذلك أن السودان هو أول دولة في المنطقة قامت بثورة شعبية ناجحة في عام ألف وتسعمائة وأربعة وستين، وهي ثورة أكتوبر التي أطاحت نظام حكم الفريق إبراهيم عبود، ولكن تلك الثورة لم تنجح في أن تؤسس نظاما جديدا بل كانت بداية لنظم عسكرية متعددة حكمت السودان خلال أكثر من خمسين سنة من عمر الاستقلال. واليوم، حين يتحرك الترابي ومعه مجموعة من الأحزاب السودانية التي تعمل في الساحة فإن السؤال المهم هو: ما الجديد الذي يمكن أن تطرحه هذه الأحزاب للشعب السوداني؟ في البداية، يجب أن نعترف بأن الأحزاب السودانية لم تتأسس على قواعد ديمقراطية لعدم وجود نظام الدولة أصلا في السودان، بل تأسست على أسس طائفية وقبلية وإيديولوجية، إذ المعروف أنه قبل الاستقلال كان هناك تياران يسيطران على الحياة السياسية في البلاد، كان هناك تيار الحزب الوطني الاتحادي الذي ظل يدعو إلى الاتحاد مع مصر، وكان هذا الحزب يعتمد على طائفة الختمية بزعامة السيد علي الميرغني، واستمر كذلك حتى انفصل الحزب من طائفته وحدث الانشقاق في بنيته ليتأسس حزب الشعب الديمقراطي على الأساس الطائفي ذاته، وعلى الرغم من أن الحزب الوطني الديمقراطي تخلى عن قاعدته الطائفية، وغير اسمه إلى الحزب الاتحادي الديمقراطي فهو لم يستطع أن يؤسس وجودا ديمقراطيا حقيقيا، وإنما أصبح حزبا يعتمد على الشخصيات أكثر من اعتماده على النظم المتعارف عليها في العمل الديمقراطي؛ ومن الجانب الآخر كان هناك حزب الأمة، وهو الحزب الذي اعتمد على طائفة الأنصار، والمقصود بهم الذين ساندوا ثورة الإمام المهدي وأصبحوا دعما فيما بعد لأسرته، وبالتالي لم يؤسس هذا الحزب نفسه على المبادئ الديمقراطية وإنما أسس نفسه على الولاء للأفراد الذين يكونون في مركز قيادة الحزب، وكان هناك من جانب آخر الحزب الشيوعي الذي تأسس على مبادئ كانت رائجة في ظروف الحرب الباردة، ذلك بالطبع بالإضافة إلى مجموعات حزبية أو اتجاهات تقوم على أسس قبلية أو طائفية أو عرقية، وكان ظهور الإخوان المسلمين بعد ثورة أكتوبر وتطور عملهم في إطار الجبهة الإسلامية هو الذي أوصلهم إلى الحكم من خلال ثورة الإنقاذ قبل حدوث الانشقاق بينهم وبين العسكر الذين يسيطرون على الأمور. واليوم، حين يعلن الشيخ حسن الترابي أن هناك جبهة قومية تعمل من أجل إطاحة نظام الحكم فهو لا يتحدث عما سيحدث بعد ذلك، لأن الوجوه التي تتناقلها وكالات الأنباء هي الوجوه القديمة ذاتها، فهل ما يريده السودان في هذه المرحلة هو إعادة الكرة إلى المربع الأول أم إنه يريد أن ينتقل إلى مرحلة جديدة؟ الانتقال إلى مرحلة جديدة يتطلب إعادة النظر في التفكير السياسي في السودان بأسره، بحيث يقلع الزعماء القدامى عن التفكير في أن ما يسعى إليه شعب السودان هو أن يمكنهم من الاستيلاء على السلطة، وأن يدركوا أنه حتى لو كانت هناك أسباب موضوعية لتغيير نظام الإنقاذ فإن هذا التغيير لا يعني بالضرورة عودتهم إلى الحكم لأن القضية التي يواجهها السودان في المرحلة الحالية، خاصة بعد انفصال الجنوب وتكاثر المؤامرات والدعوات التي تنادي بتفكيك هذا البلد وإزالته، ليست هي مسألة من يحكم، بل هي كيفية تجاوز أخطاء الماضي ومحاولة بناء دولة على أسس حديثة بحيث تكون الأحزاب الجديدة هي أحزاب سياسية في المقام الأول تعمل من أجل تحقيق مصالح المواطنين من خلال المؤسسات المتعارف عليها في نظام الدولة الحديثة، ولكن الوصول إلى هذا المستوى من التفكير يحتاج إلى إعادة النظر في التوجهات القديمة والأسس التي سارت عليها السياسة السودانية منذ بداية الاستقلال. وهنا، يجب أن نتوقف عند نظام الإنقاذ ذاته، ذلك أن قادة الحزب الوطني الحاكم يرفضون فكرة التغيير والانتقال بالسودان إلى مرحلة جديدة، وذلك خطأ استراتيجي لأنه لا فرق بين أن تحكم السودان أحزاب عرقية وطائفية وأن تحكمه جماعة تعتقد أن لديها مشروعا خاصا لم تستطع أن تحققه خلال ثلاثة وعشرين عاما، وما يحتاجه السودان في المرحلة الحالية هو أن يبدأ نظام الحكم في تحقيق وحدة وطنية تبعد التفكك في بنية الدولة، وتؤسس لوضع جديد يحقق الانتقال بالسودان من نظام السلطة إلى نظام الدولة، ولا يتحقق ذلك إلا إذا تأسس الاقتناع بأن السلطة ليست وحدها هي التي تبني الدول بل يجب أن تعمل السلطة في إطار نظام مؤسسي، هدفه الأول هو خدمة مصالح المواطنين وليس فقط المجموعات التي تتمكن من الوصول إلى السلطة. يوسف نور عوض