سؤال من يحكم؟ لم تهتم ثقافة النهضة الاستقلالية بطرحه فكريا بقدر ما كانت تشغل مثقفيها همومُ الدفاع عن الاستقلال الوليد، الذي كانت تكتنفه محاولات الغرب في الارتداد عليه وتحجيمه والسيطرة على إدارته بطرق غير مباشرة. فبعد زرع إسرائيل في الخاصرة الجغرافية للجسد المشرقي، شَعَرَ جيل الاستقلال بأن مستقبل المنطقة أصبح مرْتهنا بكليته لتطورات الصراع الجديد المفروض على مجمل الجغرافية العربية المهددة بالاحتلال أو الاستتباع لنوع الاستعمار الاستيطاني الموكول أمره إلى الصهيونية العالمية، مما يعني أن الدول العربية الصغيرة، حديثة النشأة لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، تجد نفسها مضطرة إلى خوض معركة الدفاع ليس عن كياناتها الدستورية فحسب بل عن أرض أوطانها، فالاستعمار الاستيطاني، الذي اختطف ثلثيْ التراب الفلسطيني طاردا غالبية سكانه الأصليين، لن يبني دولته إسرائيل كيما تحكم هذا التراب الفلسطيني وحده إلا كقاعدة عسكرية بطبيعة مجتمعية عنصرية معينة يهوديا، تمارس هيمنة شفافة على أوسع مساحة من جغرافية عربية تبدو مفتوحة الحدود والسدود أمام أحدث غزو جماعي يأتي به القرن العشرون المنصرم. فالغزو بالبشر الأغراب ليسوا سوى مقدمة للغزو بالنفوذ والتسلط على دوائر متعاظمة عبر محيط الأرض الأولى المختطفة. هكذا استقبل جيلُ الاستقلال عصرَ الاستعمار الجديد بما يفرض شعورا عاما بأن اختلاف هذا الاستعمار عن سابقه الموصوف باحتلال عسكري لأوطان الغير، هو أنه قائم أساسا على قاعدة إلغاء الآخر، ذلك الوطني الأصيل الذي ينبغي أن يختفي جسديا معنويا معا، أو معنويا في الأقل، إزاء مصلحة الغاصب الدخيل. لقد قضى العرب حوالي نصف قرن من عمر استقلالهم المعاصر وهم يخوضون حروب الدفاع عن ذات النفس، في ما يفهمونه من حقوق المشروعية الإنسانية، كونها هي القوة الفاعلة المعبِّئة جماهيريا لمختلف الحركات أو الانقلابات الفوقية أو شبه الطبقية المتتابعة داخليا، ومعها سلسلة الحروب الخاسرة مع إسرائيل وحلفائها المنظورين أو المتوارين. لم تكن ثمة مهلة ما للفكر السياسي وليس السياسوي العائم مع هذه المتغيرات، تسمح بتنمية أسئلة جادة تنصبّ على بُنَى الداخل المجتمعي لكيانات الاستقلال، بحيث ينأى لمسافةٍ ما عن ضغوط الخارج؛ قلما تفكر جيل الاستقلال بدواخله الذاتية، فالتحشيد كل التحشيد الثقافي والعقائدي مُرْتهن فقط بتحدّيات (العدو) ومؤامراته الصحيحة والموهومة ما أكثر الأولى وأقل الثانية على العكس من تضليل (ذمّ المؤامرة) الشائع . هذه النظرة إلى الماضي قد تصحّ كإشارة كاشفة لحاضر راهن، ذلك أن الداخل المجتمعي أصبح في طور احتلال الأولوية، ليس من الاهتمام التفكري أو النظري، بل صار يسبقه التجريبُ الكبير على الأرض، إذ يقفز سؤال: من يحكم؟ إلى صدارة الفعل والتأمل في آنٍ معا.. هذا السؤال عن الحاكم يتضمن كذلك السؤال عن المحكوم. كلاهما معا تحملا مهمات التغيير في الماضي القريب، وهما معا أيضا صار عليهما أن يصنعا، متضاديْن طبعا حتى الآن، مفاجآت الفجر الجديد؛ فقد تلقينا نحن معا، الحاكم والمحكوم، أكبر وربما أعظم مفاجأة؛ فوجئنا نحن العرب بربيعنا قبل الآخرين، الأقربين والأبعدين، كأننا لم نتأمل أن تأتينا صدمة يوما، لسنا مستعدين لها، ها هي جماهيرنا سبقتنا إلى الانخراط في خِضمِّها. ما تعلنه جماهيرنا الشابة هو أنها أصبحت مستعدة للموت من أجل حياة أخرى، جملة وتفصيلا. إنها تطلب الموت الحي، ضدا على الموت المائت الذي تعيشه. فُجاءة ربيعنا لذاتنا أولا هو أن أجواف صحارينا ليست مختنقة بالنفط الأسود، فقط، لعلها مليئة كذلك بينابيع الواحات الدفينة؛ ألسنا نحن جميعا مسؤولين عن سياسة دفنِ طمْرِ الواحات من أجل حفر آبار السمّ الأسود وحدها. ليست دولة النفط محصورة بسكانها القلّة المعدودين. ال(نحن)، العرب، مولجون كلنا في طيات حروفها الثلاثة. قد نعرف كتابتها، لكننا نجهل تصريفها النحوي والعملي على مفرداتنا. شؤون حياتنا اليومية متروكة لأتفه صُدَفِ البيت الضيِّق، والشارع الملوَّث، والمكتب الطافح بعناكب الرشاوى والتزوير والنفاق المبتذل. من يحكم؟ لم يعد سؤالا موجها إلى الإقطاعي القروسطي الجالس في قمة الهرم. أصبح سؤالَنا لنا وعنّا، نحن الذين رفعناه على أكتافنا، وتركناه عشراتِ السنين يسرقنا ويدمر أخلاقنا ويشوِّه نهضتنا ويجعل أسافلنا قيّمين على أعالينا. لم ينتزع وكالته عنا عُنوة. نسينا أننا سكتنا على كذبة التسعة والتسعين دهورا سحيقة، حتى أيقظنا أخيرا صياح أهل الحقائق في شوارعنا المقفرة: الشعب يريد إسقاط النظام! بالفعل، فقد سقطت بعض أكبر الطواغيت، أكثرها وأوحشها لم يسقط بعد. لكن نظام الأنظمة الحاكمة حتى الأمس، وربما الغد، هو الساقط في ذاته. وأما مفرداته المتبقية فقد تظلّ معلقة في الأعلى، وتحتها يأكل الفراغُ أعمدتََها المنخورة واحدا بعد الآخر. إذا تساقط حكام العصر القروسطي الباقون، في سنة ثانية أو ثالثة أو أكثر من عمر هذا الربيع الواعد بالحياة الأخرى، فما مصير محكومي العصر البائد، هل يستولدون عبودية أخرى أم إن الربيع سوف يعيد إنتاج مجتمع الأحرار من رحم مجتمع المُذَلّين المهانين عينه؟ هذا السؤال موجه إلى أسرار ميتافيزيقا التاريخ، لكن أعظم أسرارها هي المميزة دائما بحكمة البداهة الساطعة، إذ تقول: إن المجتمع المتحرر هو القادر على كشف كل عبودية طارئة عليه، ليغدو أكثر حرية وأعظم قدرة على تحمل المسؤولية المترتبة عليه إزاء حقوقه الجديدة المكتسبة، فالامتحان البنيوي والحاسم الذي ينصُبُه ربيعُ السنة الغائبة لسنته الثانية القادمة، سيكون مزدوجَ المهمة: اكتمالُ الإطاحة بالرؤوس الفاسدة المتبقية، وانتظار مجتمع المحكومين: كيف يصيرون حكاما على ذواتهم. فالشطر الأول من هذه المهمة بقدر ما كان أو سيكون صعب المنال فإنه ما إن يقع حتى يتحول إلى حدث تاريخي من فعل الماضي، أما الشطر الثاني من المهمة فهو يعني الولادة العسيرة والمديدة لمجتمع الحكومة الذاتية. داخليا، إذ يصحّ القول حينئذٍ إن التحرر من الاستعمار الأهلوي أصبح هو السبيل الوحيد المؤدي إلى التحرر من الاستعمار الأجنبي، وليس العكس. وربما كان ذلك خلاصا من هذين الاستعمارين معا. ثلاثة أقطار (مصر وتونس وليبيا) منهمكة في تحقيق هذه المهمة الثانية: كيف يمكن للمحكومين القدامى أن يصيروا حكاما على أنفسهم وأندادهم. ما هو (العقد الاجتماعي) الذي سيتوافق على مبادئه الأفرقاءُ جميعا، من هم الممثلون الحقيقيون لمصطلح قوى الشعب العامل؟ فالديمقراطية بقدر ما هي غنية بتجاربها العالمية فإنها تولد مختلفة مع كل تجربة جديدة لمجتمع مفتقر أصلا إلى شيء من أحوالها في تراثه السياسي والحضاري. عليه إذن أن يعيد اختراعها كما لو كان هو الأول في اكتشافها. ليس مسموحا باستنساخ تجارب الآخرين، رغم استحالة هذه المحاولة أصلا. ومع ذلك فقد يتعجّل البعض في استعارة الجاهز والسطحي من مظاهرها وحتى من مبادئها. ما ينبغي أن يحرص عليه روّاد «الربيع» وأبناؤه كمعيار أول لسلامة العملية التحريرية هو مأسسة سلطةٍ لضمان الشفافية الشاملة، انطلاقا من إشاعة حرية التعبير والتنظيم لكافة القوى الناشطة في الحقل العام. فالمدخل الأوحد الذي كرّسه تراث الديمقراطية، إلى نموذج مجتمع الانفتاح، كان هو تسييد مبدأ العلانية على كامل العملية السياسية؛ بحيث تُفعّله مختلفُ الحوارات بين العقول والإرادات، ولقد أنتج ربيع مصر موسمَه التدشيني للمجتمع المنفتح عندما ابتدع «ميدان التحرير» نموذجا للبرلمان الحر المستدام. لا يؤمّه من هم من صنف (ممثلي) الشعب، بل هو الشعب نفسه مصغرا أو مكثفا، منشورا في أرجائه، وعبر زمان له، لا يفصل بين ليل ونهار، سيظلّ هو برلمان الشعب، وليس لممثلي الشعب أو لحفنة من هذا المصطلح المريب. استمرارُه طيلةَ المرحلة القادمة ضمانةٌ صلبة لكل مجلس تمثيلي أن يحفظ أمانته الشعبية. «ميدان التحرير» مقابل قلعة العسكر. ذلك هو عمْق التغيير، هو الفارق التاريخي حقا، ما بين عصر الاستبداد وما بعده.. يبقى أن عبقرية كل ديمقراطية حقيقية ناشئة إنما تُقاس بقدرتها على تأسيس برلمانها الخاص، حيثما تُبْدَعُ الأفكارُ مقترنة دائما بالأفعال؛ حيثما جمهور الثوار لا ينوب عنهم أحد غير ذواتهم. حيثما، ولأول مرة في سيرورة الاستبداد العربي، تقع المواجهةُ المصيرية المطلقة بين «قلعة العسكر» المترسخة من دهور، وبين قلعة «الثورة العربية» المتجددة، وغير المسوّرة إلا بصفوف متراصّة من أجساد الشبيبة المصرية كطلائع لأجيال عربية وعالمية في آنٍ واحد. من كان يتصور يوما أن يتآخى شباب باريس ولندن ونيويورك مع شبيبة القاهرة ما إن صاحت بشعار صار صوتا كونيا: الشعب يريد إسقاط النظام! عاد سؤال: من يحكم؟ إلى مركزية الهمّّ الأول لفكر العصر وهو يصارع السدود الصامدة الأخيرة لمحصلة أزماته، والمشخّصة تحت هذا الحكم المخيف: إفلاسُ الاقتصاد الليبرالي، أو بالأحرى إفلاس حضارة الغرب التي لن تنهار لوحدها، إن لم تجرّ بقايا المعمورة وراءَها. هذه النتيجة المرعبة يعيد الفكر الغربي تشخيصها من عام إلى آخر، لكنه في العتبة الراهنة لوداع الأمس نحو الغد المظلم، يعترف بعض هذا الفكر بأن الصحوة المنتظرة، بعد كل سُبات معهود في منطق التطور، إنما جاءت هذه المرة بما يشبه الحل السحري الشرقي، من هذا الربيع العربي، الذي أصبح اسمه وصفته يترددان هكذا بكل يُسر على الألسنة وتحت الأقلام. كان حلا سحريا لأنه يجدد التذكير بعلة العلل التي يرفض سادة الإعلام الشمالي الإشارة إليها. في حين أن «ميدان التحرير» يخترع مبدأ الثورة المستدامة شعبيا، ما بعد ديمقراطية النخبة الهَرِمة في الغرب: كل ساحة في مدينة أو قرية عربية أمست مرشحة لأن يكون لها ميدانها، حينما ينطق شبابه بالحكمة الممنوعة، المؤلفة من كلمتين: من يحكم؟ ميزة الربيع العربي أنه لم يكن فحسب رائدا في طرح سؤال الحكمة هذه، بل عثر على الجواب مباشرة، وما يزال منهمكا في إنتاج، بل في إبداع تفاصيله ومفرداته. أما الغرب (الرسمي) كأنه يفضّل الاختناق تحت عقابيل أزمته الاقتصادية، على الخروج منها قيدَ أنملة، باحثا عن علّة العلل، عن الاسم السياسي الذي كادت ثقافته أن تمحوه من وثائقها المتداولة. نعم! إنه الاسم السياسي، وليس الاقتصادي، لعلاقة الحاكم بالمحكوم. وحدها شوارع العاطلين عن العمل سوف تعيد ذاكرة السياسة ما فوق نفاية الاقتصاد. إنه الفارق بين الأمس والغد عربياً على الأقل قبل غروب شمس العالم في «الغرب»؟ أيها الغرب خذ الحكمة من وطنها العريق: ذلك الشرق الحي رغم كل أمواته وجلاديه..