جاء الربيع العربي على حين غرة بالنسبة للجامعة العربية، وفي لحظة كانت تغط فيها في سبات عميق. هكذا كان الوضع، وذلك من طبيعة الأمور، فهي جامعة الدول العربية منذ مارس 1945 وليست جامعة الشعوب العربية، وجمودها من جمود الأنظمة، فقد كانت في واد والشعوب العربية في واد، وعلى امتداد تاريخها، لم تتمكن من حل مشكلة عالقة بين بلدين من البلدان الأعضاء فيها، فهي تعكس مزاج الأنظمة العربية، وبعيدا تماما عن مزاج شعوبها وتطلعاتها، فمزاجها انطوائي سوداوي دموي كما الأنظمة. بدأ الربيع في المغرب العربي، فحدث زلزال تونس، فلم تبد الجامعة العتيدة أي اهتمام، وصمتت صمت القبور تجاه ما يقوم به نظام زين العابدين بن علي إزاء شعبه، إذْ المهم للجامعة هو مصلحة النظام، ولا ترغب في إغضاب أي نظام من الأنظمة حتى لو قتل شعبه، وإذا حدث ما حدث، فعلى النظام أن يتدبر أمره بالطريقة التي يرتئيها مع شعبه، وكفى الله الجامعة العربية شر القتال. لكن الشعب التونسي هو الذي تدبر أمره هذه المرة مع طاغية تونس على طريقته، وذهب إلى غير رجعة، وبقية الحكاية معروفة. جاء زلزال مصر في أعقاب تونس، فما كان منها إلا أن لاذت بالصمت المريب على عادتها، وسمع الشعب المصري نصيحة الشعب التونسي، فقام بتدبر أمره مع نظام حسني مبارك، فاقتلعه من جذوره في فترة قياسية، وتعرفون بقية القصة. أعقبتها الثورة اليمنية، وظلت الجامعة العربية العتيدة على عادتها لا: أسمع لا أرى لا أتكلم، على الرغم من المذابح التي ارتكبها نظام علي صالح، ومازال يرتكبها بحق شعبه، وتركت قضية اليمن ماركة مسجلة حصرية باسم مجلس التعاون الخليجي، وكأن اليمن ليس دولة مؤسسة للجامعة العربية، ولا يستحق شعبه لفتة من جامعته العربية، فما كان منها إلا أن تركت الأمر للأمريكان بالتنسيق مع مجلس التعاون الخليجي والتصرف على طريقته في اليمن، ولم يترك للشعب اليمني أن يتدبر أمره مع طاغيته كما حدث في تونس ومصر، فقد أفسدت تدخلات الجوار عليه ربيعه، وجعلت من حراك الشعب اليمني نصف ثورة على النظام، ونصف ثورة مضادة على الثورة، وتعرفون بقية معزوفة اليمن السعيد التي لم تنته بعد. ولكن الربيع العربي لم يتوقف عند حدود اليمن، الذي بدأ في 11 فبراير، بل وصل إلى البحرين بعد يومين من الربيع اليمني، أي في 14 فبراير 2011، فتعاملت هذه الجامعة مع الربيع البحراني وكأنه غير موجود بالمرة، ولم تسمع به حتى بعد مرور إحدى عشر شهرا عليه، ولم تسمع وترى القمع المسلط على الشعب البحراني، وربما اعتبرت البحرين، طالما أنها مجموعة جزر صغيرة لا تتجاوز مساحتها 800 كيلومتر مربع، غير موجودة على الخريطة شعبا وجغرافية، وأيضا ليس من شيمة الجامعة العربية أن تغضب السعودية، بما أن هذا البلد (البحرين) يقع على تخوم البوابة الشرقية للسعودية وللأمة العربية. الأهم من ذلك أن المعارضة البحرينية حاولت التواصل مع الجامعة العربية، وما زالت، منذ بداية الحراك السياسي، ولديها خيمة سياسية على بوابة الجامعة العربية لتعريف الجامعة بما يدور في هذا البلد المسكين، والقيام بمبادرة ما، ولكن دون جدوى أو لا حياة للجامعة العربية، إلا إذا أراد ذوو الشأن وأهل الحل والربط فيها، فالبحرين خط أحمر وربيعها لا ينبت الزهور كما في بقية دول الربيع، بل الشوك والعوسج. وبقية قضية الحدوتة البحرينية مع الجامعة العربية تعرفونها. وأعقب ذلك الربيع الليبي ببضعة أيام في 17 فبراير، وما هي إلا أيام، ويا للمفارقة معدودات وإذا بالجامعة العربية تهب هبة رجل واحد، وعلى غير عادتها، للتحدث عن قضية الشعب الليبي ضد طغيان وجبروت الطاغية معمر القذافي، وكأن الأنظمة العربية بالنسبة للجامعة العربية موزعة بين ملائكة وشياطين والقذافي من الأخيرين، في حين أن النظام البحريني من فئة الملائكة، كما أن الشعوب العربية، حسب الجامعة العربية، بعضها يستحق النجدة كالليبي مثلا، وآخر لا يستحق حتى السؤال، كالشعب البحريني، ولأنها نائمة وستظل كذلك، فقد أريد لها أن تصحو هذه المرة حسب الحاجة السياسية لبعض الدول العربية وليس كلها، وحسب مصالح بعض أعضائها وليس كلهم، إنها الجامعة المطية وحسب الحاجة . وفي ضوء ذلك، شرعنت تدخل حلف النيتو ومجلس الأمن في ليبيا في غضون 19 يوما من انطلاق ربيع الشعب الليبي. ما هذه السرعة التي حلت، فجأة، والنخوة العروبية في إنقاذ شعب من مذابح زعيمه، في حين أن هذا التدخل قد ساهم في قتل المزيد من الشعب الليبي وتدمير مهول لبنيته التحتية، وبأمر من الجامعة العربية، التي لا حول لها ولا قوة في أي شيء إلا في شرعنة تدخلات الغرب حينا، أو السكوت المطبق على ذبح الشعوب في معظم الأحيان كما في اليمن والبحرين، ولاحقا في سورية. أما في سورية، فإن الجامعة العربية باتت تتحرك بخطوات محسوبة جدا، انطلاقا من حسابات الدول التي تحركها، وذلك حسب المصالح، وقد تعاملت مع النظام السوري بكرم زائد بالقياس إلى تعاملها مع النظام الليبي، في حين أن الثورة السورية قد مضى عليها عشرة شهور وعدد القتلى بالآلاف، والنظام السوري هو نفسه من حيث المحتوى مع النظام الليبي ومن حيث سيرة القمع لشعبه . إنها بطريقة تعاملها مع النظام في سورية تدلِله كثيرا وتعطيه خيارات لم توفرها للقذافي، ولم تعطه المهلة نفسها، ولا ندري ماذا ستكون النتيجة. لكن هذه هي الجامعة العربية دون رتوش، وذات المكاييل المتنوعة وحسب الطلب، ولن تكون أحسن من أنظمتها المنضوية تحت خيمتها. إنها فضيحة الجامعة العربية، أو ورطتها تجاه الشعوب العربية، أو فضيحة الأنظمة العربية عبر الجامعة العربية، لا فرق في ذلك، فالكل في الفضيحة سواء. يوسف مكي