َما كتبت إليك لأرضيك ولا لأرضي نفسي، وإنما كتبت إليك انتظارا لمطلع الشمس» طه حسين، أديب بدت ثورات الشباب العربي كأنها حجرة حركت بركة وضع آسن. كانت لوحة المشهد السياسي قبيل حراك الربيع العربي سوداوية يعمها اليأس والتيئيس، وبات الاقتناع راسخا لدى الطبقة السياسية، ومعظم الأحزاب الوطنية، بأن لا خيار بين مهادنة الأنظمة بالدخول في لعبة ديمقراطية مغشوشة، وبين رفض ينتهي في صالح تيارات الإسلام السياسي، والراديكالية الأصولية. لهذا رفعت الأنظمة العربية والأحزاب المتحالفة معها فزاعة الإسلاميين، كعصا تهش بها على كل مخالف أو معارض. هكذا توهمت الأحزاب ذات المنزع الليبرالي أن بإمكانها تهميش الخطاب الأصولي، لصالح خطاب ليبرالي مزعوم. لكنها استيقظت من غيبوبتها بعد الانتخابات الأخيرة على واقع آخر، واقع لا يعترف لليبراليين بالمكانة التي كانوا يضعون فيها أنفسهم. ما دلالة هذا الوضع الذي بدا مفاجئا للكثيرين؟ ما الذي يفسر الإخفاق المطلق لتجربة الأحزاب الليبرالية التي رفعت وبدون طائل شعارات تحديث الدولة والمجتمع؟ عندما خرج الشباب ثائرا في حركة 20 فبراير في المغرب، وفي ميدان التحرير في مصر، وفي تونس وليبيا واليمن وسوريا، كان خروجه دليلا على إفلاس الأحزاب وعجزها عن تحقيق تطلعات الأجيال الصاعدة. كانت مطالب الشباب واضحة ومحددة بدون مزايدات إيديولوجية ولا مماحكات كلامية، مطالب ركزت على محاربة الفساد، والرشوة، والاستبداد. وعندما ظن الشباب أن ثورتهم شرعت في تعبيد سبل تحقيق المطالب المنشودة، اصطدمت بواقع مغاير، واقع الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، التي تزامن صعودها في مختلف البلدان العربية، حزب النهضة في تونس، العدالة والتنمية في المغرب، الحرية والعدالة في مصر. فعلى الرغم من اختلاف الخصوصيات بين هذه البلدان، فإن الانتخابات الأخيرة كشفت الغطاء عن عالم عربي يشكل وحدة سياسية غارقة في التقليد، رغم ما يبدو على السطح من مظاهر التحديث. لقد أخرست صناديق الاقتراع، في الانتخابات الأخيرة، ألسنة النخب التي كانت تصنع في دهاليز الأنظمة البوليسية، أو النخب التي كانت تعيش على رصيد شرعية تاريخية أو قومية موهومة. فلأول مرة في التاريخ العربي المعاصر، تضع نزاهة الانتخابات حدا لنفوذ أولئك الذين استمروا في القيادات، حتى صارت وقفا عليهم، وعلى عشيرتهم وأبنائهم، مع أنهم لا يمثلون إلا أنفسهم والمستفيدين من وجاهتهم. وهذه التجربة على الرغم من سلبياتها ومفاجئاتها واقع جديد لا عهد للممارسة السياسية العربية به. لهذا السبب، يقتضي المنطق الديمقراطي، التعامل مع هذه التجربة تعاملا نقديا يكشف حدودها القصوى، ومدى قدرتها على مسايرة منطق التاريخ الكوني. التعامل النقدي يعنى قبول الحوار والاحتكام إلى الاستدلال ونبذ النقاش الديماغوجي وأساليب التناور في الممارسة السياسية. إن إقصاء الآخر المختلف، خاصية عربية بامتياز. لذلك لا نجد حوارا جديا بين مكونات المشهد الحزبي، لأن الفضاء العربي لم يكن يوما مناخا ملائما للقيم الليبرالية، هذا ما يفسر القطيعة المطلقة بين الليبراليين وغير الليبراليين. فلا الأحزاب الليبرالية كانت تعترف بوجود الآخر غير الليبرالي، ولا الأحزاب الإسلامية كانت تعترف بوجود الآخر غير الإسلامي، وقد استفادت الأنظمة الكلية من هذا الوضع، لنتذكر كيف كانت الزنازين العربية، منذ مصر الناصرية، تجمع بين اليساري واليميني وبين الإخواني والشيوعي. الليبرالي بحكم التعريف يعترف بالرأي الآخر، ويقبل الاختلاف. إذا لم يكن كذلك، تحول إلى وجه آخر للظلامي الذي يصيح: طريقي أو الطوفان. وهذا هو واقع الليبراليين العرب. لذلك أخفقوا في نقد واقع الاستسلام والخنوع، ونقد الإيديولوجيات المعادية لكل ما هو ليبرالي. لقد ثار الشباب العربي من أجل الحق في الحياة، لكن ثورته تمخضت عن واقع لم يكن منتظرا، فإذا كان التحرك الشبابي قد أسقط أنظمة فقدت مناعتها، وفرض على أنظمة أخرى التكيف مع الشروط الجديدة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فإن ثمار التحرك لم تكن في مستوى المأمول، لأنها كشفت الغطاء عن غليان يصب في صالح المحافظة، وفي غمرة هذا الغليان، ارتفع صوت الفقيه معلنا حسم المعركة لصالحه. أليس هذا دليلا على إخفاق المثقف الليبرالي في مزاحمة سلطة الفقيه؟ يصعب أن يدعى أيا كان تفسير هذا الواقع العربي بتعقيداته وصموده أمام كل محاولات التحديث، لكن الصعوبة لا تحول دون التساؤل إلى أين يسير التاريخ العربي بعد صعود المد الإسلامي؟ ألا تحمل هذه التجربة في ثناياها بذور نقيضها بعد أن استعصى على المجتمعات العربية استيعاب القيم الليبرالية؟ إذا صح ذلك، فقد تتمخض تجربة الفقيه عن نقيضها، كما يخرج من كل شيء سواه، فيتم استيعاب الليبرالية تحت غطاء التجربة الإسلامية كما قيل. لفهم جذور الصراع الدائر في العالم العربي اليوم بين المثقف الليبرالي والفقيه المزهو بانتصاراته في الغزوات الانتخابية الأخيرة، لا مناص من استحضار بعض المعطيات التاريخية، وأول هذه المعطيات، الحضور الدائم والمؤثر لشخصية الفقيه في الماضي والحاضر، فلا الفيلسوف استطاع أن يلعب دور الفقيه لا في القديم ولا في الحديث، ولا المؤرخ استطاع أن يحرر التاريخ من سلطة الفقهاء وسند المحدثين، ليخرج به من تاريخ الرواية إلى تاريخ الحكمة والرأي، كما حاول ابن خلدون بدون جدوى. لذلك ظل الفقيه أكثر التصاقا بالمعيش اليومي للجماهير، لا يدانيه في ذلك أي نمط من أنماط المثقفين الأخرى. ولعل السبب في ذلك، راجع إلى واقعية الفقيه في نظرته للطبيعة البشرية التي ليست ملائكية كلها ولا شيطانية كلها. يعي الفقيه جيدا أن حلم تحقيق النظام المثالي المتمثل في الخلافة بعيد المنال، لذلك يتعايش دائما مع مفارقة التعلق بالمثال، والتعامل مع الواقع المتردي. لا يطمح الفقيه إلى أكثر من تطبيق السياسة الشرعية كما سماها ابن تيمية، على أمل أن تتدخل العناية الإلهية لتحقيق المثال. هذا ما دفع العروي إلى نعت واقعية الفقيه بأنها: «تتأصل في طوباوية دفينة». (أبظرفي هذه المسألة عبد الله العروي، مفهوم الدولة، ط: 5، ص: 104). من هذه الواقعية يأتي اقتراب الخطاب الفقهي من أذهان العوام، واستغلاق الخطابات الأخرى. لم يغير اتصال العرب بالغرب في العصر الحديث من الواقع الموروث شيئا، لأن المثقف الليبرالي لم يستطع نقد أوهامه عن الحداثة، لذلك عجز عن تجاوز واقعية الفقيه. لأن المثقف العصري ظهر في شروط تاريخية غير متكافئة، لم يدرك من الليبرالية الأوروبية إلا ليبرالية سطحية، لا لون لها ولا تأثير. لم يكن المثقف العصري مسنودا بطبقة عقلانية كما وقع في الغرب. من هنا يأتي عجزه عن تحقيق قطيعة مع الوعي الماضوي، مما اضطر معه إلى اللجوء إلى الانتقاء والتوفيق. فكما حاول العرب في القديم احتواء الفلسفة والمنطق اليونانيين لتكريس المحافظة ونقد البدع، هاهم الآن يعجزون عن استيعاب الليبرالية ويوظفونها في إطار تقليدي، وهذا العجز الموروث، مسؤول إلى حد بعيد، عن رفض الفكر الليبرالي الذي نجر ذيوله الآن. من مآسي التاريخ العربي أن محنة العقل، كما عاشتها المعتزلة، لم تستطع أن تخضع العقل المجرد إلى التاريخ. لم يستخلص الفكر العربي الدروس الإيجابية من اختبار مدى قدرة القيم المجردة على الصمود أمام عناد الواقع. لهذا ظل العقل العربي يسبح في سماء التجريد الكلامي على المستوى الثقافي، وسماء النظام المثالي على المستوى السياسي، نظام الآداب السلطانية كما نظر له الماوردي في كتاب ((الأحكام السلطانية)). وبهذه العقلية، قرأ العرب المحدثون الليبرالية الأوروبية قراءة أفرغتها من مضمونها، وحولتها إلى شعارات محنطة لا علاقة لها بالواقع. هكذا ورث الفكر العربي الحديث داء الانفصال عن الواقع من تراث يتغنى به الكثيرون بدون مبرر معقول، ولهذا فهمت الليبرالية الأوروبية فهما مضطربا سطحيا، لم تفهم كمنظومة خضعت لاختبار تاريخي عبر مراحلها المختلفة، وكل مرحلة تضيف قيما جديدة إلى المرحلة السابقة، إلى أن استنفذ الفكر الليبرالي مهامه في تحديث العقليات والنفسيات. لم يعرف العرب منظومة ليبرالية على هذه الشاكلة، كل ما عرفوه مجرد شعارات ليبرالية شاحبة، كتلك التي مثلها طه حسين، الذي حاول عبثا أن يرفع شعار العقل الديكارتي في بيداء الشعر الجاهلي، فانتهت به العواصف إلى المحنة المعلومة، محنة الليبرالي القلق بطل رواية «أديب»، الذي قضى حياته في انتظار مطلع الشمس، وما زالت الأجيال من بعده يؤرقها نفس الانتظار.