ما ينتابك وأنت تتجول في شوارع مدينة لوبليانا الجميلة، خصوصا على جنبات نهر لوبلانيكا، حيث المعمار الهبسبورغي يشكل خلفيات شبه جدارية للحياة الدائبة في شوارعها النظيفة، هو اللوحات الخشبية ذات الحجم الصغير جدا التي تعرض للبيع في الأماكن المخصصة لذلك في الأزقة الخلفية وعلى جنبات النهر. على اللوحات تجد صورا للحياة السلوفينية ما قبل «الثورات « الشيوعية والرأسمالية، حيث تلاحظ سيطرة تيمات الحياة الزراعية والمواضيع الدينية ومشاهد النقد الاجتماعي وغيرها من التمثلات التي تعطيك إطلالة على الحياة في سلوفينيا إبان سيطرة النمسا والإمبراطورية الأستروهنغارية على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وما بعدها. كانت لهذه اللوحات التي لا يتعدى طولها 30 سنتمترا وعرضها 10 سنتمترات -والتي تسمى «بانيشكا كوشنيكا» باللغة السلوفينية- وظيفة غلق منافذ «جباح» النحل، والآن صارت رمزا لماض ولى، البعض منها أصلي والبعض الآخر تتم إعادة إنتاجه من طرف «فنانين» متخصصين في «فن لوحات النحل». رموز ماض آخر ربما ولى هو الآخر دون رجعة هي صور العهد الشيوعي، خصوصا صور جوزيف بروز تيتو، المقاوم الذي أسس يوغسلافيا الحديثة (في الحقيقة كانت مملكة يوغسلافيا موجودة منذ العشرينات وما فعله تيتو هو توحيد صربيا وكرواتيا والبوسنة والهرسك وسلوفينيا ومونيتيكرو وماسيدونيا بالإضافة إلى إقليم كوسوفو تحت راية حكم شيوعي فيدرالي بعد الحرب العالمية الثانية) رغم أن إرثه لم يصمد أمام تنامي النزعة القومية عند الصرب والكروات وعند الإثنيات الأخرى. صور تيتو تباع في أزقة لوبليانا وفي مدن أخرى من مدن البلقان ليس كرمز لماض من القمع والاستبداد والإرهاب الفكري وغياب الحرية، وهو جو كان سائدا في دول المعسكر الشرقي، ولكن كرمز لحقبة كان فيها اليوغسلافيون يفتخرون بكونهم اشتراكيين ولكن في وسط لم يعرف المعتقلات السرية أو التجميع الإجباري أو الغولاغ، بل كانت تسود فيه حرية نسبية للتنقل والعيش. تيتو، الكرواتي الأصل، ظل دائما يجسد رغبة شعوب البلقان في تجاوز الفسيفساء الإثنية (والتي يرفض الكثير من المفكرين نعتها بالبلقنة كما أخبرتني بذلك ماطية دامشيك، مستشارة عمدة لوبليانا والمتخصصة في التاريخ والتي لها كتابة في الموضوع) التي تركتها الإمبراطوريتان الأستروهنغارية والعثمانية، وبناء مجتمعات متكافئة وعادلة ومع ذلك أخذ نوع من المسافة النقدية تجاه الاتحاد السوفياتي وتجاه الحرب الباردة بشكل عام. رغم أن تيتو لم يتوفق في تذويب الحنين الصربي إلى عهود من الماضي السحيق حقيقية أو متخيلة (حيث كان من السهل على ميلوسوفيتش الركوب على القومية الصربية عند وصول التسيير الجماعي لشؤون يوغسلافيا إلى الباب المسدود أواخر الثمانينات، وكان من السهل على كرادزيتش وملاديتش تحريك آلة التطهير العرقي ضد البوسنيين والكروات في التسعينات) فإنه ترك إرثا مهما سهل مأمورية مرور دول مثل سلوفينيا (وكرواتيا فيما بعد) إلى اقتصاد السوق ودولة الحريات والحق والقانون. إرث تيتو يتمثل في تعميم التعليم ووضع اللبنات الأولى للتسيير الذاتي المعقلن، وخلق نخبة مثقفة ذات حس نقدي متطور (كما يشهد على ذلك الزخم الثقافي الذي تعيشه الآن مدن مثل لوبليانا وزاكريب وسراييفو وسكوبي وبريشتينا وحتى بلغراد)، واحترام متطور للبيئة والمحيط الإيكولوجي والثقافي، وتنظيم محكم للحياة الاجتماعية والاقتصادية، وقضاء شبه تام على مظاهر الفقر والتهميش. ولكن أكبر إرث تركه تيتو هو نزعة متجذرة لممارسة النقد، والذي يتجلى حاليا في نقد السلطة والحكومة، ونقد فكرة أوروبا رغم الانخراط فيها (صارت سلوفينيا عضوا في الاتحاد الأوروبي منذ 2001 وستتبعها كرواتيا فيما قريب)، ونقد النظام العالمي الجديد بزعامة الولاياتالمتحدةالأمريكية ونقد النزعة القومية الصربية وكذا نقد حنين روسيا إلى عهود الاستبداد القيصرية والشيوعية. الزخم الثقافي والنهضة الفكرية التي تشهدها دول البلقان كانت قد دشنت فصولها سلوفينيا منذ أواخر الثمانينات وبداية التسعينات. لقد لعبت مجموعة لوبليانا بقيادة المفكر ذي الصيت العالمي سلافوج جيجيك دورا كبيرا في خلق الإطار الفكري المناسب للانتقال من الشيوعية إلى الرأسمالية، ولكن حسب نوع من النقد المزدوج يقتضي وضع الأسئلة باستمرار ومحاولة تفكيك كل مصادر اليقينية على مستوى الخطاب والممارسة. وضع جيجيك، الذي تشبع بالتحليل النفسي اللاكاني ومارس قراءة ما بعد ماركسية وما بعد حداثية للفكر الهيجيلي، اللبنات الفكرية لنقد النزعة القومية الصربية وكذا تفكيك الستالينية وتمثلاتها في الفكر والثقافة والتنمية. ورغم أن جيجيك صار نجما في الأوساط الأكاديمية في الغرب، خصوصا في الجامعات الأمريكية، فإنه بقي وفيا لنوع من التمرد الفكري على أي نوع من السكون الإيديولوجي في أحضان الرأسمالية، بل عمل على إيجاد فضاءات فكرية ونقدية على هامش فضاءات الحرية التي توفرها المجتمعات المنخرطة في اقتصاد السوق. هكذا من خلال عشرات الكتب حول لاكان والسياسة، وماركس والشبقية، وهيجل والفاشية، وكانط والرغبة، حاول جيجيك وأتباعه قلب الأسس الفلسفية للأنوار لضمان انخراط جدلي متحول لسلوفينيا ودول البلقان (وحتى دول أوربا الشرقية المستفيقة من سرمدية الرتابة الشيوعية) في رأسمالية ذات توجه إنساني ونقدي. ولكن ما أن أصبحت سلوفينيا دولة تعتمد اقتصاد السوق وتنخرط في التحديث الاقتصادي حتى انقلب جيجيك واعتمد نهجا بروتوماركسيا لنقد العولمة كما يظهر ذلك من خلال كتابه الأخير حول العنف، حيث يقر جيجيك بأن العنف الرمزي الذي تمارسه ثقافة الرأسمال المتحرك والشركات المتعددة الجنسيات ونجوم المساعدات الإنسانية أمثال بيل غيتس وغيره أكثر أذى وظلما من العنف الجسدي الذي يمارسه الثوار والجماعات المسلحة وقواد الانتفاضات. عنف الرأسمالية الرمزي هو عنف نُظُمي يسلب الذوات الإرادة والحريةُ. هكذا فإن جيجيك يعتبر أحسن مثال على إعادة التموقع النقدي الذي دشنه تيتو قبل عقود من الزمن. على مستوى المجتمع المدني، ما يميز سلوفينيا وكذا دول أخرى مثل كرواتيا والبوسنة وماسيدونيا هو وجود اهتمام كبير بالمرافعة من أجل تغيير الأوضاع، ولكن على أساس البحث الميداني والمعرفة. مركز دراسات السلام بلوبليانا مثلا قام بدراسات جادة ذات قيمة أكاديمية عالية حول الشباب والهجرة والاتجار في البشر وحقوق الأقليات بنى على أساسها خططا ناجعة وفعالة لاستصدار قوانين وسياسات من هيئات محلية ووطنية وأوروبية، تتوخى العدالة الاجتماعية وتنمية الحقوق وتغيير التوجهات السياسية. في شراكة مع مفكرين أفذاذ أمثال توماس ماستناك (الذي تعد مساهماته ذات قيمة فكرية عالية ولها منحى يختلف تماما على منهجية سلا فوج جيجيك) وكريف ليف (اليهودي المتعاطف بشكل نقدي مع القضية الفلسطينية وهو رئيس مركز دراسات السلام) وفلاسطا جالوفيتش (مؤسِسَة مركز دراسات السلام والمفكرة المتميزة المعروفة في الأوساط الألمانية والنمساوية)، يساهم مركز دراسات السلام بشكل نوعي وجاد في الدفع بحقوق الإنسان والأقليات في سلوفيينا والبلقان إلى درجات متطورة. كل هذا في الوقت الذي تنخرط فيه سلوفينيا في العولمة واقتصاد السوق والوحدة الأوروبية (حيث أنهت رئاسة ناجحة للاتحاد الأوروبي في يونيو 2008) ولكندون الخجل من محيطها (كما فعلت إسبانيا) ودون نفي لماضيها المشترك مع دول البلقان الأخرى. فالسلوفينيون مازالوا يتكلمون اللغة الصرب-كرواتية -مثلهم مثل كثير من شعوب البلقان- رغم دعم اللغة السلوفينية وجعلها لغة وطنية، كما أنهم مازالوا ينخرطون في النقاشات واللقاءات حول تدبير فترة ما بعد الشيوعية وما بعد الهوس الصربي بالأمجاد الغابرة لصربيا الكبرى وفصول التطهير العرقي في البوسنة وكرواتيا وحول تحديات تدبير محاربة الاتجار في البشر وقضايا الهجرة والأقليات والتعدد الديني وتحديات الانخراط في اتحاد أوروبي يعرف سيطرة دول مثل فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة، وهي دول تعتبر البلقان هامشا يجب التعامل معه بحذر. رغم أن سلوفينيا تعتبر من أغنى دول البلقان على صغرها (حوالي مليوني نسمة ومساحة لا تتعدى مساحة جهة فاس بولمان) حيث الدخل الفردي يصل إلى 28 ألف دولار (أي أكثر من عشرة أضعاف معدل الدخل الفردي في المغرب) فإنها تبقى دولة تقدر دورها في التاريخ وتحترم محيطها البيئي والثقافي. عمدة لوبليانا، زوران زانكوفيتش، مثلا هو رجل أعمال ناجح ولكنه مع ذلك فعل الكثير من أجل تدبير عقلاني متطور للنفايات في المدينة، ومن أجل تدبير المساحات الخضراء والفضاءات العمومية. إنه عمدة من الصنف النقدي الذي تحدثنا عنه أعلاه: الانخراط في اقتصاد السوق ولكن دون نسيان درس تيتو: النقد وسيلة مثلى للابتعاد عن الكسل والفتور الإيديولوجي.