«مكر التاريخ».. هكذا علقت المسؤولة عن التواصل في بورصة وارسو، على تحويل مقر الحزب الشيوعي ببولونيا إلى بورصة في سنة 1991.. ذلك السوق المالي الذي عرف تطورا كبيرا في ظرف عشرين عاما أهلته لأن يصبح متصلا اتصالا وثيقا ببورصتي نيويورك ولندن.. تلك البورصة التي انطلقت بإدراج خمس شركات في البداية استقطبت إلى حدود اليوم حوالي 700 شركة، مما يدفع رئيس تحرير الشؤون الاقتصادية في وكالة الأنباء البولونية إلى التأكيد على أن الاقتصاد البولوني أصبح رهينا ببورصة وارسو التي تمثل رسملتها ربع الناتج الداخلي الخام. الناتج الداخلي الخام لبولونيا يعكس القفزة القوية التي عرفها اقتصاد البلد خلال إحدى وعشرين سنة الأخيرة، فقد انتقل خلال هذه المدة من 69 مليار دولار إلى 400 مليار دولار.. إنجاز يعكس التحولات التي طرأت على اقتصاد بولونيا بعد 1989، حيث انخرط المسؤولون الجدد مباشرة بعد الانتخابات التي أشرت على تفكك النظام الشيوعي، في اقتصاد السوق.. الذي كان من تجلياته تطبيق سياسة تقشفية في تدبير الميزانية والسعي إلى محاصرة التضخم وإصدار قرار تحويل «زلوتي» العملة الوطنية لبولونيا والانخراط في عملية خوصصة مكثفة عبر البورصة.. تلك العملية التي ترعاها وزارة الخزينة التي يصفها نائب وزارة الخزينة بأنها آخر معقل ضد الشيوعية، مادامت لم تنه بعد عملية التخلص من المقاولات العمومية، وهو يعتقد أن الخوصصة تأتي لخدمة هدف الاقتصاد الحر .. إجراءات توافقت عليها القوى السياسية التي توالت على حكم البلد بعد 1989، بل إنها حظيت بقبول من الاشتراكيين الذين انحدروا من الحزب الشيوعي المنحل..غير أن السياسة الاقتصادية التي قادها في البداية الوزير «ليزيك بارلزيروفيتش» لم تحظ بقبول قطاع واسع من الساكنة، مما فرض الانخراط في عملية مكثفة لتفسير مبررات شد الحزام في تلك المرحلة، التي عاشت فيها بولونيا تحولا اقتصاديا وسياسيا عميقا.. تحول ما كان ليكون ممكنا لو لم يدخل البلد في نوع من السلم الاجتماعي، أرست دعائمه اللجنة الثلاثية المكونة من النقابات والباطرونا والحكومة التي تفضي المفاوضات السنوية داخلها إلى تسوية جميع المشاكل، غير أن تفعيل تلك الإصلاحات ما كان ليتحقق بسرعة، كذلك، دون الدعم الخارجي الذي حظيت به بولونيا، خاصة من الولاياتالمتحدة التي تصدت لدعم صندوق استقرار الإصلاحات وعملت في ذات الوقت بمعية صندوق النقد الدولي على التخفيف من مديونية البلد.. ناهيك عن الشروع في مغازلة حلم الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي الذي تأتى في 2004، مما منح الاقتصاد البولوني فرصة كبيرة لتركيز دعائمه. لم تنل الأزمة التي طالت الفضاء الأوروبي من الاقتصاد البولوني الذي حقق في السنة الفارطة أقوى معدل للنمو بلغ 4 في المائة من الناتج الداخلي الخام، و إن كان الخبراء يتوقعون تباطؤ وتيرة النمو بفعل تداعيات الأزمة في منطقة اليورو، ويعزو المسؤولون في وزارة الاقتصاد أداء الاقتصاد البولوني إلى دينامية الطلب الداخلي وانتعاش الصادرات التي استفادت من قيمة العملة الوطنية وتنويع الاقتصاد الذي يعتمد على محركات متعددة.. ناهيك عن الحصانة التي منحها عدم انضمام بولونيا لمنطقة اليورو لاقتصاد البلد، الذي يبدو أن المسؤولين فيه يتريثون في اتخاذ قرار الالتحاق بذلك الفضاء إلى حين تعافيه من الأزمة الحالية وكذلك إلى حين استجابة الاقتصاد البولوني لمعايير الانضمام، خاصة على مستوى العجز الموازني الذي يصل إلى 5.7 في المائة، هذا في الوقت الذي يفترض ألا يتعدى حسب معايير ماستريخت 3 في المائة من الناتج الداخلي الخام. و يتجلى من خلال بعض التصريحات أن الاقتصاد البولوني مازال لم يستثمر كل الإمكانيات التي يمكن أن تضمن له القوة في المرحلة الحالية، إذ يرتقب في ظل التراكم الذي سيحققه البلد، أن يتجه أكثر نحو التجديد الذي يفترض أن يفضي إلى إحداث علامات تشير إلى بولونيا وتضمن لها الانتشار. ثم إن البلد مدعو لمحاصرة اتساع دائرة البطالة التي تتعدى 10 في المائة. بعدما عبر البولونيون عن الكثير من التردد في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في بداية المفاوضات وارتبطوا كثيرا بالولاياتالمتحدة، أصبحوا اليوم أكثر تشبثا بالفضاء الأوروبي، بل إنهم كانوا خلال الأزمة الأخيرة التي طالت منطقة اليورو أكثر المدافعين عن نوع من التضامن بين جميع الأوروبيين، حيث اعتبروا الفصل بين منطقة اليورو وباقي الدول المكونة للاتحاد كارثة حقيقية سوف تصيب المشروع الأوروبي في مقتل.. هذا التشبث بالفضاء الأوروبي مرده أساسا إلى الإحساس بوحدة المصير، لكن يعزى إلى الفوائد التي تجنيها بولونيا من الدعم المالي الذي ساهم في تجسيد الإصلاحات، و إن كان البولونيون يعتبرون أنه لا بد من العمل على الرفع من حجم الدعم المالي، ففي وزارة الفلاحة يشددون على عدم رضاهم عن الفوارق التي تميز المساعدات التي يستفيد منها المزارعون البولونيون مقارنة بنظرائهم في بلدان أوروبية أخرى.. علما أن المسؤولين البولونيين يعتبرون أن فلاحة بلدهم تشكل مستقبل الفلاحة في أوروبا. ومنذ فاتح يوليوز الماضي ترأس بولونيا الاتحاد الأوروبي.. رئاسة جاءت تحت شعار تحقيق أوروبا منفتحة وموسعة وآمنة ونامية.. المسؤولون في الرئاسة البولونية يؤكدون أن الكثير من الالتزامات تحقق توليهم أمر الاتحاد الأوروبي، و إن كان الإعلام لم يركز سوى على المساعي التي كان يبذلها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي والمستشارة الألمانية انجيلا ميركل من أجل إنقاذ منطقة اليورو.. تلك الرئاسة كرست صورة بولونيا كقوة صاعدة في أوروبا بفعل موقعها الجغرافي ووزنها السياسي الذي دفعها في الفترة الأخيرة إلى أن تبدي اهتماما كبيرا بالضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، حيث منحها الربيع العربي فرصا كي تعرض خدماتها في تدبير التحول في تونس وليبيا ومصر.. اهتمام تجلى في الزيارات العديدة التي قام بها مسؤولون بولونيون لتلك البلدان، وفي مقدمتهم الزعيم التاريخي «ليس فاليسا» لتونس.. إلى تلك صورة يمكن أن تفتح في المستقبل أسواق شمال إفريقيا والشرق الأوسط وإفريقيا.