عبر التاريخ الثقافي للبشرية، غيّر جمع من الفلاسفة والمفكرين والكتاب بعضا من آرائهم ومعتقداتهم السابقة إلى حد التناقض التام بين ما قيل أو كتب سابقا وبين ما قيل أو كتب لاحقا. كان ذلك طبيعيا ومقبولا، فالظروف المتغيرة والاكتشافات الجديدة ونضوج الإنسان نفسه مع مرور الزمن تجعل التغيرات الفكرية والعقيدية أمرا محتما، بل ومطلوبا. لكنّ هناك فرقا بالغ الأهمية بين ظاهرة التغير والمراجعة الفكرية المقبولة تلك وبين خيانة ما قاله أو كتبه الإنسان سابقا، خصوصا إذا كانت آثار تلك الخيانة ستنعكس على واقع الأمة والمجتمع لتزوره أو تفسده أو تغويه؛ ولذلك فعندما يقوم، مثلا، رئيس حركة معارضة عربية -وهو الذي كان محسوبا من المفكرين التقدميين المتزنين ومن المناضلين الشرفاء غير الانتهازيين- بإعطاء تصريحات وممارسة أفعال فيها رائحة خيانة لما قاله وكتبه وفعله في السابق، فإن المنطق يقتضي طرح الأسئلة وتفكيك الأقوال والأفعال، خصوصا وأن الأمر لا يقتصر على فرد واحد بعينه وإنما يطال أعدادا متنامية من مفكري ومثقفي الأمة العربية عند تعاملهم ضد أنظمة الحكم المستبدة وضمن ثورات وحراكات الربيع العربي المباركة. السؤال الأول يتعلق بالمنهجية، فالذين نقصدهم كانوا من الذين كتبوا عن الديمقراطية أو ادعوا إيمانهم بأهمية الممارسة الديمقراطية في الحياة السياسية العربية، وكانوا يعيبون على المسؤولين الرسميين العرب أنهم يدعون تمثيل الأمة في أقوالهم وأفعالهم، بينما كانوا في الواقع لا يمثلون إلا ذواتهم المستبدة المنتفخة أو يتكلمون باسم أقلية عسكرية أو قبلية أو حزبية ينتمون إليها. والسؤال، إذن: هل تصريحات وأفعال هؤلاء المسؤولين في حركات المعارضة تمثل معتقدات ومواقف وأقوال مجموعة صغيرة يجتمع أفرادها في فنادق عواصم العالم الكبرى ويقررون ويتحدثون استبدادا، ودون أية ممارسة لمنهج الديمقراطية الحقيقية الشفافة، باسم الكل من أتباعهم؟ وفي هذه الحالة، ما الفرق بينهم وبين المسؤولين العرب الذين كانوا ينتقدون ليل نهار؟ بل أليست في ذلك خيانة لأفكار ديمقراطية نادى بها هؤلاء ودبّجوا عبر ماضيهم كله المقالات والكتب حولها؟ من هنا الاستغراب والهلع الذي أصاب الكثيرين منا عندما صرح أحد الكتاب المثقفين بأن حركة المعارضة التي ينتمي إليها اتخذت قرارات منذ الآن، وقبل استلامها للحكم، بشأن قضايا بالغة الأهمية للأمة العربية، من مثل موضوع توازنات القوى في الأرض العربية أو موضوع المقاومتين العربيتين المباركتين في لبنان وفلسطين. هل فات هذا القائدَ المثقف مقدارُ الزلزال السياسي والأمني الذي ستحدثه تصريحاته بشأن موضوعين مصيريين في الحياة القومية العربية، يتعلق أولهما بتوازن القوى بين الإمبريالية الأمريكية وأتباعها من جهة، وبين قوى الرافضين لتلك الهيمنة الأمريكية، من جهة ثانية؟ ويتعلق الثاني بأقدس وأطهر ظاهرة أفرزتها الأمة، وهي ظاهرة المقاومة الباسلة للوجود الصهيوني الهمجي في فلسطين المحتلة؟ لكن أخطر ما في هذا التصريح هو ما لا ينطق به ويخفيه تحت ستار التخمينات. ألا يخاف أن تتهم حركته بأن هذه التصريحات المفجعة هي الثمن الذي تدفعه للحصول على مباركة ومساندة الخارج لتنجح في الداخل؟ وإلا فمن المستفيد الحقيقي من هذه التصريحات غير الثالوث الأمريكي والصهيوني والعربي المتعاون المطيع؟ دعنا نكون صريحين: ليست هذه التصريحات المفجعة تغيرا في وجهة نظر قابلة للأخذ والعطاء، وإنما هي خيانة لمواقف وأفكار ومؤلفات وأحاديث سابقة. ونحن هنا لا نتهم أحدا بالعمالة ولا نتحدث عن خيانة الأوطان، وإنما نشير إلي خيانة النفس والضمير والتاريخ المكوِّن للشخصية والذات. ومع ذلك لنسأل: في أية خانة نضع هذه التصريحات المفجعة؟ هل نضعها في قول الشاعر الأمريكي ت.إس.إليوت: «إن أكبر الخيانات هي عمل الشيء الصحيح للأسباب الخاطئة»، فيحق لنا عندئذ أن نتساءل عما إن كانت مقاومتكم للاستبداد تقوم أساسا على أسباب خاطئة. هل نضعها في قول ملكة بريطانيا إليزابيث الأولى منذ أربعة قرون: «في الثقة وجدت الخيانة»، فنتحسر على فجيعتنا في الثقة التي منحناها لوطنيتكم وإخلاصكم وحسن نواياكم؟ أم نصنف أقوالكم بأنها تخرجكم من زمرة المثقفين الملتزمين عندما نتذكر ما قاله الكاتب الفرنسي ألبرت كامو من أن «المثقف هو الشخص الذي لديه عقل يراقب نفسه»، إذ من المؤكد أن تصريحاتكم تشير إلى أن عقلكم بالنسبة إلى هذا الموضوع قد اغتال نفسه بدلا من مراقبة نفسه؟ لكن لن نسرد كل ذلك، مع الأسف، على كثير من انتهازيي الثقافة بل سنحيلهم على كتاب الفيلسوف الفرنسي جوليان بندا المعنون ب«خيانة المثقفين» الذي كتب في بدايات القرن الماضي عن مثقفي أوربا، فلعل مثل هؤلاء المثقفين يجدون فيه ما يجعلهم يراجعون أنفسهم، وذلك بعد أن كثرت خيانات الفكر الذي بناه هؤلاء عبر العشرات من السنين من حياتهم السابقة الناصعة.