كان قراري أن أدوّن بصدق كل الأحداث التي عشتها، وعلى الأخص تلك المتعلقة بالفترة الممتدة من سنة 1971 إلى سنة 1984 (ثلاثة عشر عاما) لصيقاً بالعقيد معمر القذافي، إذ كنت طبيبه الخاص. تلك الفترة التي أدخلتني قصوراً ودهاليز لم تتح لغيري، وحضرت لقاءات واطلعتُ على أسرارٍ لم يكن من المفروض على مثلي حضورها أو معرفتها. هذا الكتاب يهتم بتسجيل جزء هام من هذه المرحلة، وهي على سبيل التحديد، فترة ثلاثة عشر عاما من حياة القذافي، بما أثار من تساؤلات عن شخصيته وتصرفاته وأُسُس وأهداف سياسته. بدأت إجراءات استلام مستشفى كانيفا، الاسم الإيطالي للمستشفى، الذي كان يستعمله الجيش البريطاني في ذلك الوقت، ويدعى مستشفى القوات المسلحة البريطانية (بي.إم.إتش). وعلمت أن طاقمه سيكون بريطانياً. في منتصف شهر يونيو من عام 1966، بدأ الفريق الطبي البريطاني بالوصول، ولأن المؤسسة لم تستلم المستشفى بعد من القوات البريطانية، أخذت الكوادر التي وصلت تتردد على العيادات الخارجية، كل حسب عمله. كان عملي يسير بشكل اعتيادي إلى أن استدعاني الدكتور الدجاني في أحد الأيام وأبلغني بأنهم اختاروه لاستقبال مستشار الأمراض الباطنية الإنجليزي ليرافقه خلال أوقات العمل. وأضاف قائلا: «أنا لست مستعدا لوجع الرأس. هل تساعدني وتقوم بهذه المهمة؟ إن رغبت سأرشحك لكبير الأطباء لتقوم بالمهمة مكاني». فرحبت بالفكرة أيما ترحيب. كان الدكتور الدجاني خريجاً من بريطانيا ويتقن اللغة الإنجليزية، لذا تم اختياره. لم يكن أمام المسؤولين بداً من الموافقة على اختياري، حيث إنني الطبيب الوحيد المتبقي الذي يتقن اللغة الإنجليزية. وصل المستشار البريطاني، وكان اسمه كليفورد كلارك، ولعجبي كان مُوَلّدًا. عرفت بعد ذلك أنه من جنوب أفريقيا، وأنه هاجر إلى بريطانيا هربا من الاضطهاد العنصري. استقبلت الدكتور كلارك بالترحاب، وبَدَأتْ معه صداقة عمر، وقد أظهر حباً وإخلاصاً لي ولليبيين لم نعهده من طبيب أجنبي، ربما لأن أصله أفريقي وشعر بأنه بين أهله. أحبه الناس جميعا وأَدْخَلَ بُعداً جديداً في الطب في ليبيا. كما تبناني وعلمني أصول الطب وبما أهتم وكيف أتصدر للمناقشة في الامتحان وأثناء فحص المريض. علمني فن الفحص السريري وأخذ بيدي إلى أن أصبحت جاهزا لاجتياز امتحان شهادة عضوية الكلية الملكية للأطباء الباطنيين. عند ذاك قال لي: «خالد لا تضيع الوقت. أنت جاهز الآن. اذهب واعمل في بريطانيا عدة أشهر لتفهم العقلية الإنجليزية لدى الممتحن والمريض، وأضاف قائلاً: «إن الجمل الإنجليزي يعرف طرق لندن أفضل من الجمل العربي، إن أردت النجاح» . استمر هذا الاهتمام على مدار ثلاث سنوات، وأنا مدين لهذا الإنسان مدى الحياة. تَسَلَمتْ المؤسسة المستشفى في شهر غشت من عام 1966، وكان المشرف عليه هو الدكتور سامي النوال (ليبي) ورئيس قسم الباطنة، والمدير الفني هو الدكتور رونالد لاس (المستشار البريطاني الأوروبي). انتقلت للعمل في المستشفى وكنت الطبيب العربي الوحيد بين الطاقم البريطاني. اكتسبت ثقة وإعجاب الجميع عن طريق العمل الجاد والاهتمام المتناهي بالمرضى بجميع التفاصيل. لقد سبق أن ذكرت أن صداقتي مع إسماعيل الدجاني كانت نقطة تحول في حياتي، إذ لولا معرفة إسماعيل ورفضه استقبال المستشار الإنجليزي وترشيحه لي لما كنت قد حصلت على عناية وتعليم وتوجيه، ولما وصلت إلى ما وصلت إليه. استمر سامي النوال في عمله بكفاءة، وازدهر المستشفى إلى درجة طغت على شهرة مستشفى القاعدة الأمريكية. في شهر يونيو 1967، انقلب حال البلاد عامة، ومستشفانا خاصة، رأسا على عقب. نشبت حرب يونيو في الشرق الأوسط. وعلى سجيته، اندفع الشعب الليبي غاضبا يناصر الشقيقة مصر بكل ما أوتي من إمكانيات. بدأ الحديث عن الحرب وبدأت الأمور تتضح جليا، وأظهر الأطباء الإنجليز (ما عدا كليفورد كلارك) تحيزهم ودفاعهم عن إسرائيل. قررت التطوع للعمل طبيبا مع القوات المصرية في سيناء، واستشرت كليفورد في الموضوع، فقال لي: «خالد.. النتيجة محسومة مسبقا، والقوى غير متكافئة. لا يمكن أن تنتصر الفوضى على النظام. المصريون فوضويون والإسرائيليون منظمون. لا تفعل». لم أستمع إلى نصيحته، وتطوعت مع مجموعة أطباء (عبد الرؤوف الجاروشي وفايق الدجاني وسفيان العلمي ونهاد كمال). وكان على رأس مودعينا الأستاذ الدكتور أنيس القاسم المحامي. اتجهنا إلى مصر برا، وعند وصولنا إلى مدينة أجدابيا، علمنا بموافقة مصر على وقف إطلاق النار، وكانت الساعة الثانية صباحا. اضطررنا للمبيت بالصحراء لما أصابنا من إعياء، على أن نتدبر الأمر غداً. في صباح اليوم التالي، قررنا أن نكمل المسيرة، فوصلنا مدينة بنغازي، التي كان يسودها الاضطراب والدهشة. لم يصدق أحد ما جرى، فيما أعلنت الإذاعة المصرية أن جمال عبد الناصر سيوجه كلمة إلى الأمة العربية. انتظر الجميع الخطاب على أحر من الجمر، والكل كان يتوقع المعجزة والمفاجأة. ويا للهول! اعترف عبد الناصر بالهزيمة واستقال. أُسقط في يد الجميع، بين منتحب ومتشنج ومذهول. همنا على وجوهنا لا ندري ما العمل، وتوجهنا إلى أحد الفنادق لننام في تلك الليلة الليلاء. في صباح اليوم التالي، 10 يونيو، أبلغنا الدكتور فايق الدجاني أن إذاعة الأردن تستغيث وتطلب العون والأدوية والدم. اتصلنا بالهلال الأحمر الليبي، وكان رئيسه في ذلك اليوم هوالحاج علي لنقى، وأبلغناه استعدادنا للذهاب إلى الأردن إن هو تبنانا. وكما كان متوقعا من أي إنسان عربي، شكرنا ورحب بنا وفُتِحَت لنا مخازن أدوية وزارة الصحة في مدينة بنغازي. كما وضعت تحت تصرفنا طائرة نفاثة من طراز كرافيل، تابعة للخطوط الجوية الليبية، وأُرسِلَ معنا مندوبٌ من الهلال الأحمر الليبي. اتجهت الطائرة بنا إلى روما حيث تقرر من هناك إجراء الاتصال بالصليب الأحمر الدولي لتأمين الرحلة لنا إلى الأردن بما أن المنطقة مسرح حرب. وفي إيطاليا، لم نستطع التوصل إلى اتفاق معه عن طريق الهاتف، فاضطررنا للذهاب إلى جنيف حيث مكثنا ثماني وأربعين ساعة نحاول إقناع الصليب الأحمر بتأمين رحلتنا إلى الأردن. لكنه أبلغنا يومها أن إسرائيل تسيطر الآن على الأجواء، وأنه لا بد من أخذ موافقتها وإبلاغها عمن بالطائرة. كان يمكنهم تأمين شحنة الدواء إلى الأردن، لكنهم لم يكونوا يستطيعون ضمان سلامتنا لأننا عرب، فرفضنا الفكرة. وبالمصادفة، قابلنا وزير الشؤون الاجتماعية الأردني آنذاك الأستاذ مصباح الكاظمي في الفندق، وحاولنا الحصول على معلومات بخصوص الوضع، فتبين لنا أنه خالي الوفاض، لا معلومات لديه، وهو في مأزق لا يعلم ماذا يفعل. علم بمأزقنا، فاقترح علينا الاتصال بالقنصل الأردني الموجود في جنيف، ففعلنا وأبلغنا القنصل بأن هناك طائرة ستقلع في اليوم التالي من باريس (ترانس ميدتيرنيان إير لاين) إلى بيروت، فحَجَزَ لنا مقاعد عليها وتكفل بتوصيل الدواء ليقابلنا في بيروت. ومن هناك نذهب برا إلى الأردن عبر سوريا. في بيروت زرنا أخ الدكتور سفيان الأكبر (سامي العلمي مدير البنك العربي ببيروت) الذي رتب لنا لقاء مع الصليب الأحمر اللبناني ليساعدنا في نقل الأدوية إلى الأردن. قابلنا في بيروت المرحوم أحمد الشقيري (رئيس منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك) واستفسرناه عما جرى وما هي السياسة المستقبلية للمنظمة لتدارك آثار ما تم، فوجدناه أيضا خاوي الوفاض ولا علم له بأي شيء، ولا خطة لديه للمستقبل. اتجهنا إلى عمان براً، وعند الوصول توجهنا فوراً إلى مركز الهلال الأحمر الأردني وقابلنا رئيسه آنذاك الدكتور أبوقورة، الذي رحب بنا واستلم الأدوية. لم نجد آثاراً لكارثة في الأردن. كل شيء يسير على ما يرام: لا جرحى، لا كوارث إنسانية، ولا دليل على أن البلاد دخلت حرباً وخسرت نصف أراضيها، ولم يكن هناك حاجة للدم ولا للأدوية. تحققنا من أن الاستغاثات والنداءات التي انطلقت من الإذاعة الأردنية فكانت «تهويشا»ً لتغطية التقصير والتصرفات المشبوهة، التي ارتكبت على جميع الجبهات. سهل لنا السفير الليبي في عمان على الفور أمر العودة إلى ليبيا عن طريق القاهرة، فمكثنا هناك ثلاثة أيام، زرت خلالها الأصدقاء واتفقت وخطيبتي على أن نسرع بالزواج، على أن يكون في شهر سبتمبر من نفس العام. د. الإدريسي الخيري خالد - أستاذ امراض القلب والطبيب الخاص لمعمر القذافي سابقا