سأعترف بضعة اعترافاتٍ لا تعزّز الصدق، ولا تنفي الكذب. سأعترف بأن نظرةَ أعمى، حدّق إلى ملامحي، أشدّ رعبا بالنسبة إلي، من كل تأملات الأعين النظرة والناظرة، ذلك أني «رأيته» يرى ما لا يرى البصير، ذلك أن الأعمى الذي حدّق بي في مقهى المدينة الغربيّ، لم يكن يحدّق فحسب. لقد كان ينحت داخل روحي معنى آخرَ للإبصار. وكتلسكوبٍ كاشفٍ، كان يقسم أن ابتسامتي مجاملة وأن الفكرة التي جعلتني أعبس تافهة. مرة واحدةً كوبُه ما أخطأ الوصول إلى فيهِ، يحتسي قهوته ويبتسم. بينما كان عبق القهوة يملأ كوبه، كان رعب النظرة يملأ قلبي. وبينما نادى على النادل ليطلب إليه كوبا آخر، كنت أنادي على «بورخيس» ليدفع الحساب، وأنصرف من واقع المقهى إلى حلمٍ لا يشبه البطل فيه هذا الأعمى الوسيم. سأعترف بأن الأعمى يكترث للرائحة أكثرَ من الصورة. لقد كان يحتسي قهوته عن طريق الشمّ أوّلا، ولم يكن يبالي بتأمّلِ «الأعمى» المجاورِ له؛ ذلك أن العُميَ الحقيقيّين لا يرون العُميَ المزيّفينَ لحسن الحظ وحزنه. ولأن لا شيء يجدي في هذا العالم أصلا، لا شيء تُفتقد رؤيته، لا شيء سوى موتنا المتْلُوِّ في النشرةِ أو الملقى على قارعة الطريق. ما فائدة «عينيكِ» إذن، هل للبكاء؟ خذ إذن: يمكن للأعمى أن يبكيَ بصدق أكثر؛ ذلك أنه يوما ما خطط بمناديلَ زائفةٍ مجرى دمعه، لا وقت انسكابهِ، ولا أوان انسحابه؛ والأعمى بصيرٌ بالتعلم والتحلم، لكن متى يكون «البصير» بصيرا إن أعماه الله بالجهل والبطَر. قال ابن الروميّ: «مجالسة العُمْي تُعْدي العمى / فلا تشهدنَّ لهمُ مَشْهدا». سأعترف الآن بأن «ابن الرومي» يكذب، كعادة الشعراء في بلادي. يوما لم يكن العمى الحقيقيّ معديا، كما يفعل كل هذا التباصر الزائف. جلسة واحدة مع أعمى تريك من معاني الإبصار ما لا تمنحكَ إياه السكنى ثلاث ليالٍ في مستشفى «عيون»؛ ذلك أن الأعمى يرى ما لا تراه ويدهش لألوان لم تتلوّن بها عيناكَ من قبل؛ ذلك أنه وهو يحكّ رأسه، مخترعا للبرتقاليّ لونا آخرَ، يجعل من «بورخيس» متندّما آن نسيانه البرتقاليّ. «نعم البرتقاليّ ما أشعرني بالندم، لا الأخضر ولا الأزرق»، هكذا قال الأعمى البصير آخر مرّة. وحده الأعمى لم يشاهد نشرة أخبارٍ لزعيم عربيّ يخطب عن فساد بلادِ الأعداء وصلاح بلاده؛ لم يرَ تعاقب الجنازات على موكب الشاشات، إثر أخبار كرويّة وسينمائية؛ لم يشهد يوما «فنانة» كبرى تحاور «شيخا» أكبرَ عمن يملك أجرا أكبر من القناة لا من الله. لم يتسنّ لصفاء عينيهِ يوما أن يتلوّث بمكاييجَ زائفة على سحنات مثقفي البورصة أو متابعة طقوس تقبيل كفّ السلطان أمير المؤمنين من قِبل الشيخِ كلب المواطنين. سأعترف آخرا: عمى حقيقيّ.. ولا بصيرة زائفة !