حسن بنشليخة تصوير - كريم فزازي في الوقت الذي تستيقظ فيه صربيا وتقدم «اعتذارا» إلى ضحايا مذبحة سريبرنيتشا التي اقترفتها في حق مسلمي البوسنة المسالمين، نجد أمير كوستاريكا، الذي يرأس لجنة التحكيم بمهرجان مراكش السينمائي، والذي طردته تركيا في أكتوبر 2010 من لجنة تحكيم مهرجان أنطاليا السينمائي بعد أن أعلن علانية من خلال تصريحاته أن المذابح التي حصلت في حق مسلمي البوسنة «مبررة»، ولا يزال إلى يومنا هذا يدافع بكل حماس عن مجرم الحرب الرئيس الصربي السابق «سلوبودان ميلوسوفيتش» ورئيسي فرق الموت «رادوفان كاراديتش» و»راتكو ملاديتش» ويوظف الحجج في أعماله السينمائية كشهادة دامغة لتبرير قتل الآلاف من المسلمين الذين لا زالوا يبكون موتاهم ويطالبون بالعدالة. والغريب في الأمر أن يجلس إلى جانبه المخرج الإسرائيلي رادو مهايليانو الذي يريد أن يخدعنا بفيلمه «عين النساء» بدعوى أنه يدافع فيه عن المرأة العربية-المسلمة، بينما لا يتأثر بواقع النساء المرير وتردي أوضاع حقوقهن في فلسطين. ومما لاشك فيه أن سهام فيلم «بلفيدير» لمخرجه أحمد اماموفيتش أصابت هدفها في الوقت المناسب. وشاهدت أمير كوستاريكا ورادو مهايليانو في القاعة وهما يترنحان طوال مشاهدة الفيلم، لأنهما لا يعترفان إلا بالهولوكوست اليهودي. لكن الفيلم، والذي يتزامن مع الذكرى الخامسة عشرة لمجزرة سريبرينيتشا، التي راح ضحيتها ثمانية آلاف مسلم بوسني، وفق في إطلاع الرأي العام العالمي على أهوال الحرب المنسية أو التي يحاول البعض إنكارها. وقصة الفيلم في حد ذاتها مؤلمة بعمق عاطفي مؤثر، ليس عن الحرب بل عن فظاعة ما بعد الحرب التي تفضح الاضطهاد الوحشي الصربي وتوثق لنا معاناة صقيع العذاب ووجع الأرواح الممزقة التي تملأ فراغ مخيم لاجئي البوسنة، رجالا ونساء وأطفالا، الذين نجوا من الإبادة الجماعية، والذين لم تتوان أمهات ضحايا مذبحة سريبرنيتشا لحظة عن المطالبة بالكشف عن الحقيقة، وسط عالمين معزولين ومنغلقين تشوبهما المتناقضات والتفاهات تحت تأثير برامج فلول الفن التلفزي الهابط، لتتصادم صورتا مجتمع منحل يزكيها انتقال الفيلم من الأبيض والأسود إلى الألوان الطبيعية. والشريط هو ثاني عمل مطول للمخرج، اختار له في معظمه أن يكون بالأبيض والأسود ليتناسب مع حجم مأساة اللاجئين المسلمين، الذين حشروا في مخيم «بلفيدير»، والذي يشبه مخيمات الاعتقال الفلسطينية، وتشم من خلاله رائحة نازية القرن الواحد والعشرين الإسرائيلية. وبدا أنه كتب على هؤلاء اللاجئين أن يكابدوا أبد الدهر للحصول على رفات أحبائهم من المقابر الجماعية لدفنها بطريقة طبيعية. ومن المشاهد المؤثرة في الفيلم إحياء لاجئي المخيم ذكرى مرور خمس عشرة سنة على المجزرة، في صمت مطبق احتجاجا على الصمت الدولي، على نفس القنطرة التي سلكها ضحايا المذبحة سنة 1995 فرارا من الإبادة. ومن المشاهد الأخرى التي تعتصر القلب ولن تغادر المخيلة لاستنهاض العقول البشرية وتحريضها لمنازلة الظلم والطغيان، مشهد عَلِي (نيرمين توليتش) ضحية التطهير العرقي المقعد والمقطوع الرجلين من الفخذين، وهو يزحف خارج المخيم كالأفعى ليضع حدا لحياته افتداء للطبيعة الإنسانية الشريرة، في مشهد مليء بالدلالات تهتز معه مشاعرك. ومن بين اللاجئات بطلة الفيلم رويدة (سادزيدا سيتيتش) التي أدت دورا لامعا يدهش المشاهد باتجاهات إنسانية متباينة ومؤثرة يستحق جائزة أحسن دور نسائي. لم تتنازل رويدة قط عن ملاحقة الرجل الذي قتل عائلتها وتجد نفسها وجها لوجه مع وحشية هذا المجرم، صاحب القلب الغليظ المفعم بالفحم الحجري الذي يجسد أهوال الأفكار الهمجية للقرن الواحد والعشرين. وفي نهاية المطاف تقتلعه، ومعها نفسها، من الجذور لتدفن معه جرائم تجار الحروب الحاليين. وبرعت الكاميرا في تصوير شقق المخيم الفقيرة وغرفها الرثة التي لا تصلح حتى سكنا للبهائم ومن يمرض منهم لا يعالج. والشيء الوحيد الذي بقي في حوزة هؤلاء اللاجئين، بعد مرور خمس عشرة سنة وهم يعانون نفس العذاب في نفس المكان، هو احتضان بعضهم البعض وتوفير الرعاية للمصابين الذين نجوا من المجزرة. وتقضي نساء المخيم أيامهن متنقلات بين مراكز الطب الشرعي والمقابر الجماعية أملا في العثور على رفات أبنائهن وأزواجهن وآبائهن ويصحن ملء السماء طلبا للإنصاف والعون لكن الأرض تفتح فاها وتبتلعهن. إنه فيلم يتميز بقوة السرد العظيم ويحمل في طياته الوعي الإنساني اللافت للنظر والتأملات لطبيعة الإنسان القبيحة. ومما يعطي الفيلم صبغة واقعية إنسانية للأحداث هو رصده للواقع وإشكالياته في صيغة بعيدة عن الاستعراض. ونظرا لطبيعة القصة التأملية والفلسفية وقيمة مادته الجمالية ولغته التعبيرية يصبح السيناريو واحدا من أهم خصوصيات الفيلم. وتجدر الإشارة إلى مهارة الكاميرا وتحكمها في المشاهد ودقة اختيار اللقطات والتركيز على الحس الدرامي في أرقى مستجداته. وينبغي التأكيد على أن المخرج يعتمد على أسلوب السينما «التعبيرية» الذي يعتمد بدوره على البصر كوسيلة للتأثير في المشاهد. ولهذا جاء الفيلم مشحونا بمشاهد الفضاء واللون الأسود لرصد العالم الخارجي بموضوعية مستقلة عن أي وجهة نظر شخصية معينة.